من الأزمة إلى إدارتها… إلى واقع جديد
إنتقلنا من مرحلة انفجار أكبر أزمة اقتصادية، اجتماعية، مالية ونقدية في تاريخ العالم، منذ نحو أربعة أعوام، إلى مرحلة مواجهة الأزمة وإدارتها قدر المستطاع، وصولاً إلى مرحلة الواقع الجديد حيال لبنان وشركاته وأبنائه.
بعد أربع سنوات من اندلاع هذه الأزمة، التي ليس لها مثيل في العالم، وغير مسبوقة، لم يعد في الإمكان الحديث عن أزمة راهنة، لأننا انتقلنا إلى واقع جديد اقتصادي، مالي ونقدي، باعتبار أنه عندما تطول الأزمة على المَديين المتوسط والبعيد، تتحوّل إلى واقع جديد، وعلينا أن نتعامل معه بعقلانية، وموضوعية وواقعية جديدة.
هذا الواقع الجديد يدلّ بوضوح على أنّ اقتصادنا أصبح حجمه يُراوح بين 20 و23 مليار دولار بحسب الأرقام الرسمية، ونقدّر أن هناك تقريباً 10 مليارات إضافية تدور في السوق السوداء والإقتصاد الموازي غير الشرعي. إضافة إلى ذلك، إنتقلنا من اقتصاد مصرفي ومالي مراقب دولياً، إلى ما يُسمّى باقتصاد الكاش، وهو أخطر إقتصاد لأيّ بلد في العالم.
أوصلنا اقتصاد الكاش هذا، المخيف والخطر، إلى إدراجنا على اللائحة الرمادية، فيما المخاطر تزداد يوماً بعد يوم، من إدراجنا المفاجئ على اللائحة السوداء، وهذا يعني أن المخاطر المالية، والنقدية والإقتصادية ستزداد، حتى على الفريش الكاش المختبئ، لأنّ الحصار المالي والنقدي والعقوبات الدولية يُمكن أن تمنع كل التحويلات من لبنان وإليه.
الواقع الجديد الذي نعيشه اليوم، يشهد ولادة أثرياء جدد، وفقراء جدد، مثل الذين نشهدهم جرّاء الحروب، ففي هذا الواقع الحديث الأغنياء الجدد هم الذين إستفادوا من التهريب، والترويج، وتبييض الأموال، وصرف الشيكات، والشراء وبيع العملات، وتجارة الأدوية، والبنزين، لا سيما عند انقطاع المادة من السوق، مستفيدين من الدعم الوهمي، كذلك هم الذين استولوا على هذا الإقتصاد الجديد، وصاروا يعيثون في الأرض فساداً.
في المقابل، هناك الفقراء الجدد الذين ادّخروا طوال حياتهم قرشهم الأبيض ليومهم الأسود، بكل شفافية، لكن أموالهم، نُهبت وسُرقت.
في هذا الواقع الجديد، شُرّعت سرقة وهدر الودائع، في جوّ من الوعود والأوهام الكاذبة، باسترجاع مبالغ بخسة، عبر تعميم 166، والذي يُفصح عن استرداد 10 آلاف و18 ألفاً خلال السنوات العشر المقبلة، أو من وراء مسودة خطة الحكومة الجديدة، التي هي مرة أخرى كرة نار بين المنصّات الدستورية، عنوانها جذاب، أما داخلها سيُفرّغ من أي مضمون عادل.
في هذا الواقع الجديد، ها هو الإنهيار النهائي لكل الوزارات والدولة، والطعن بالإقتصاد الأبيض والشفاف، وتحفيز الإقتصاد الأسود وتفاقم الفساد، في إدارات الدولة، وفي كل دوائر المعاملات الرسمية، وسيكون من الصعب جداً إعادة بناء دولة الحقوق والعدالة والمؤسسات.
في هذا الواقع الجديد، يُهرّب المستثمرون والرياديون، لأن ليس لديهم ثقة بهذا المستقبل الغامض، ويستقرّون في بلاد تحترمهم، تجذبهم، وتواكبهم لإنماء أفكارهم الخلاّقة.
الحمدلله، هناك بعض الشركات لا تزال تصمد، وحتى أنها تستثمر في القطاعات المنتجة، كالصناعة والتجارة وخصوصاً السياحة. إنها خلاص لبنان وأمله الأخير.
في هذا الوقع الجديد، ينكمش الإقتصاد الأبيض، ويصغر يوماً بعد يوم، على حساب الإقتصاد الأسود الذي ينمو ويكبر حجمه، وهو مَبني على التهريب، والتبييض، والترويج، ولديه غطاء سياسي، فتزدهر الإنقسامات الطائفية، المذهبية والحزبية، ويبقى رؤساء الطوائف وزعماؤها في مناصبهم، وهم المسؤولون المباشرون عن أكبر أزمة مالية، إقتصادية ونقدية في تاريخ العالم، وهم كانوا المسؤولين عن أسباب الأزمة، والمسؤولين عن اندلاعها، والمسؤولين عن إدارتها لمدة أربع سنوات، ولا يزالون هم قادة المرحلة المقبلة والواقع الجديد.
في المحصّلة، إنتقلنا من مرحلة انفجار الأزمة، إلى مرحلة إدارتها، إلى مرحلة الواقع الجديد، بعيداً من مفهوم الدولة والمؤسسات والقوانين، فنحن اليوم على مفترق طرق، وهناك الفرصة الأخيرة، للعودة إلى الطريق السليم عبر انتخاب رئيس للجمهورية، وقيام حكومة فعالة، لمواجهة هذا الواقع الجديد، أو تكملة السير عبر هذا الطريق الشائك، في جو من الفوضى المستشرية، وإنماء الإقتصاد الأسود، تحت حكم المافيات والأيادي السود. فالواقع الجديد، مخيف ومحزن، لكن لن يُضعِف إيماننا ولا محبتنا لهذه الأرض المقدسة، ولا مثابرتنا على المواجهة لإعادة بلدنا لجذوره.
فؤاد زمكحل – الجمهورية