اقتصاد

“كحل” زيادة الرواتب أفضل من “عمى” الافلاس….هكذا ستؤمّن الزيادات

أقرّ مجلس الوزراء، بعد طول انتظار وإضراب موظفي القطاع العام والعسكريين المتقاعدين احتجاجاً على عدم صرف الحكومة زيادة مقبولة على الأجور والتمييز بين موظفي القطاع العام، زيادات لموظفي القطاع العام، على أن يكون الحدّ الأدنى 400 دولار والحد الأقصى 1200 دولار، كما أقرّ ثلاثة رواتب إضافية للعسكريين الذين هم في الخدمة والمتقاعدين منهم بحيث يصبح مجموع ما يتقاضونه 9 رواتب شهرياً. فمن أين ستؤمّن هذه الزيادات؟ وعلى أي أساس أقرّت هذه الأرقام؟ 

يعتبر الخبير الاقتصادي نديم السبع أنّ الحدّ الأدنى الجديد مقبول نسبياً، وما هو جيّد أنه لم يُرفع إلى أرقام كبيرة وقياسية، نظراً لأن رواتب القطاع العام كانت مُتضخّمة جداً. 
وعن مصدر تأمين هذه الزيادات، يُشير السبع، في حديث عبر موقع mtv، إلى أنها ستؤمّن من الضرائب المُجباة والجمارك وغيرها على سعر صرف 89000 ليرة، كما أنه في الموازنة باتت النفقات قليلة، وبالتالي فإن الدولة قادرة على القيام بالجباية والدفع للموظفين.  

أما عن الضغوط التضخميّة، فيُجيب أنه لا ضغوط تضخميّة لأن مصرف لبنان هو من سيوفّر الأموال بالدولار، وذلك عبر تدخّله في السوق، فإذا كانت وزارة المال بحاجة للدولار لإعطاء الموظفين رواتبهم يأخذ منها اللّيرة ويعطيها دولاراً، ويشتري بعدها من السوق بطريقة مدروسة. 
وعلى أي أساس أقرّت هذه الأرقام والزيادات؟ يلفت السبع إلى غياب أي أسس مُعيّنة بل كانت بطريقة عشوائية كما يحدث دائماً. 
ستبقى رواتب الموظفين في القطاع العام، من إداريين وعسكريين وغيرهم، بالدولار، بعد إقرار مجلس الوزراء الزيادات عليها بالدولار أيضاً. ومن شأن هذه الخطوة أن تمنع أي ضغوط مُحتملة على اللّيرة وتمنع تدهور سعرها وتحافظ على الاستقرار النقدي، وبالتالي تحول دون التأثير على قيمة الرواتب. 

فماذا عن رواتب الموظفين في القطاع الخاص؟ ألا يستحقون مثل تلك المبادرة، أم يجب أن يُصعّدوا ليحصلوا على حقوقهم؟ 

من ناحية أخرى، كتب موقع “لبنان ٢٤”

“لا أنت راضي ولا أنا راضي أيام عم تـــركض على الفاضي وبيجمدوا الكلمات ع شفافي لمن عبالي يخطر الماضي”.


كلمات هذه الأغنية للكبير الراحل وديع الصافي تختصر بدقة وضع موظفي القطاع العام مع دولتهم، التي تحاول عبر حكومة تصريف الأعمال، تقديم كل ما هو مستطاع ومتاح لردم الهوة الهائلة بين رواتبهم وبين الوضع الاقتصادي والمعيشي، بعدما فقد أغلبية اللبنانيين “تحويشة” العمر بين ليلة وضحاها، من دون أن تلوح في الأفق بوادر حلحلة قريبة لأزمة الودائع؛ وهي أزمة يصعب إيجاد حلّ عادل لها إن لم يقتنع الجميع بأن ثمة مسؤولية مشتركة يجب أن يتحمّلها الجميع، وتحييد المودعين عن أي حلّ قد يكون على حسابهم ومن حسابهم.

من حيث المنطق ما أقدمت عليه الحكومة في جلسة أمس الأول يفترض أن يكون نظريًا “كحلًا”، وهو “أفضل من العمى”. فهذه الزيادة الكبيرة نسبيًا في رواتب موظفي القطاع العام وعسكريي الخدمة الفعلية والمتقاعدين العسكريين والمدنيين يجب أن تكون من حيث المبدأ قد سحبت فتيل الأزمة التي كانت قائمة بعدما أقدم موظفو الوزارات والمصالح العامة على تنفيذ إضراب عطّل لفترة دورة العمل الطبيعي في الإدارات الرسمية في كل المناطق، وبالتالي فإنه من المفترض أن تكون هذه الزيادات، وهي أقصى ما يمكن أن تقدّمه الحكومة “البصيرة العين”، قد سحبت ذريعة شلّ العمل الإداري وتقديم الخدمات لجميع الناس من دون منّة وتربيح ألف جميل.


نظريًا فإن ما اعتمدته الحكومة في آلية الزيادات هو أقصى ما يمكن أن تقدم عليه، ولكنه قد يبدو غير كافٍ إذا قيست قيمة هذه الزيادات مع نسبة غلاء المعيشة، ومع فقدان الليرة اللبنانية لقدرتها الشرائية توازيًا مع الارتفاع الجنوني لسعر الدولار الأميركي، على رغم كل الإجراءات التي أتخذها حاكم مصرف لبنان بالإنابة مؤخرًا، والتي أدّت إلى تثبيت سعر الصرف عند مستويات معينة.
 
لقد أصبح راتب المتقاعد العسكري أو المدني في الدرجة الخامسة ما يقارب  230 دولارًا، ويرتفع تدريجيًا وفقًا للدرجات والرتب ليصل الى نحو 900 دولار، مع بدل البنزين لموظفي وضباط الفئة الأولى من المتقاعدين، كما منح موظفي القطاع العام زيادات تعادل ما حصل عليه المتقاعدون ، بالإضافة إلى بدل صفائح بنزين مع سعر ثابت لا يقل عن مليون وخمسمئة ألف ليرة للصفيحة الواحدة، ووعود بحوافز دولارية سنوية.

قد يقول البعض إن ما أقدمت عليه الحكومة غير كافٍ قياسًا إلى ما يتقاضاه الموظفون في القطاع الخاص، وهذا الأمر من شأنه أن يخلق فجوة طبقية بين الناس، وقد يؤدي إلى انفجار اجتماعي غير مستحب، ولكن قبل كل شيء يجب أن يُطرح سؤال بديهي على هؤلاء الموظفين، الذين لا يعجبهم عجبًا: لو كانوا مكان هذه الحكومة فما هي الاجراءات التي كان من الممكن أن تخذوها بمسؤولية ومن ضمن الإمكانات المتوافرة والمتاحة من دون تعريض أمن الخزينة ومالية الدولة للخطر المحدق؟
فلو أراد الوزراء أن يتصرّفوا شعبويًا، وبعيدًا عن المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقهم، وفي هذه الظروف المصيرية، لما كان أسهل عليهم من اتخاذ إجراءات متهورة وغير مدروسة قد تكون شبيهة بخطوة سلسلة الرتب والرواتب، التي أدخلت البلاد في أزمة طويلة وعريضة لا تزال المالية العامة تلملم تداعياتها، لأن من اتخذ قرار السلسلة يومها لم يستند إلى معايير دقيقة وعلمية، بل سعى إلى شعبوية ظرفية، فجاء قراره عشوائيًا من دون التعمّق في درس نتائجها السلبية على معيشة المواطن، الذي ظنّ لوهلة أولى أنه حصل على مبتغاه، ليتبيّن له لاحقًا أن ما أخذه باليد اليسرى أخذ منه أضعافًا مضاعفة في اليد اليمنى.
 
فالموظف المغلوب على أمره، ولكن المغرّر به في الوقت ذاته، غير راضٍ عن هذه الزيادات، التي يعتبرها من “الجمل دينتو”، وقد يعود إلى الاضراب ربما. فإذا فعل ما يُوحى به إليه هذه المرّة يكون كمن يطلق النار على رجليه، لأن ما فعلته الحكومة هو أقصى ما يمكن أن تقدم عليه. أما عكس ذلك فيعني الانهيار الكامل والشامل والافلاس التام. وعندما يحصل الارتطام الكبير لا يعود ينفع الندم والالتفات إلى الوراء والتحسّر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى