تثبيت سعر الصرف وهمي
يقدّم رئيس مركز دراسات الغد، سامي عطالله، مقاربة واضحة المعالم لما قبل الانهيار وما بعده. برأيه، إن بنية النموذج ما زالت قائمة، لكنها صارت مشوّهة أكثر فهي تخفي العجز المالي وتعزّز الاستهلاك المستورد الذي يضخّم العجز التجاري عبر وهم اسمه تثبيت سعر الصرف. ويحصل ذلك عبر انعدام محاولات الإصلاح. فرغم أن أصحاب المصالح يزعمون بأنهم يريدون اقتصاداً حرّاً، لكنهم يرفضون اقتصاد السوق ويتمسكون بالاحتكارات والريوع. في سنوات الأزمة، ورغم كل الحديث عن الاقتصاد المنتج والتغيرات الموعودة، إلا أنه تم تحفيز الريوع والنشاطات الريعية التي أعفيت من الضريبة مثل عمليات صيرفة والرسوم الجمركية المخفضة، وتسديد القروض بأسعار صرف متدنية… حالة اللامساواة وفقر المجتمع ستزداد سوءاً، فهل سنجد في المستقبل رأس مال بشري «ماهر» لتصديره؟
قدّم رئيس الحكومة نجيب ميقاتي موازنة 2024 باعتبارها بداية جادة للتعافي انطلاقاً من كونها تنطوي على تصحيح في سعر الصرف وتوازن بين النفقات والإيرادات. هل صحيح أننا نتعافى؟
– إذا دققنا في أرقام الموازنة بين الإيرادات والنفقات يتبين أن هذا التعافي وهمي. محاسبياً، هناك توازن بدلاً من العجز الذي كان جزءاً أساسياً من المشكلة الاقتصادية في آخر 30 عاماً. لكن على جانب النفقات يظهر أنها لا تشمل المساعدات التي تأتي من الخارج إلى القطاع التعليمي والجيش وقوى الأمن، وأن هذه المساعدات تضمن تشغيل القطاعات. كما أن هناك غياباً تاماً عن ذكر أو مناقشة مشكلة الدين وخدمة الدين. وعلى جانب الإيرادات، يظهر بوضوح أن هذا «التعافي» يأتي على حساب فئات الدخل المتوسط والمنخفض، إذ إن 76% من إيرادات الدولة تأتي من ضرائب غير مباشرة (رسوم جمركية، TVA…) مقارنة مع 55% في عام 2019. وفي المقابل، إنّ الفئات التي تملك الموارد والقدرة حصّتها من إيرادات الدولة أقلّ. في السنوات الأخيرة أدّت التحوّلات إلى زيادة العبء الضريبي على المجتمع بعد إفقار وتهميش وزيادة البطالة، علماً أن المعدل العالمي للضرائب غير المباشرة هو 35%. ولا يجب أن نغفل أنه بالتوازي مع هذا العبء الضريبي المرتفع، فإن حصّة الوزارات الخدماتية كالتربية والصحة والشؤون الاجتماعية من الموازنة تبلغ نسبة 40% مما كانت عليه عام 2019، ما يعني أن المواطن لا يأخذ حقوقه من خدمات مقابل ضرائب هائلة. اللامساواة في تزايد. لذا، أعتقد أن ما قصده رئيس الحكومة عندما ذكر التعافي، هو الجزء البسيط من الناس الذين لديهم نفوذ وموارد هائلة و«مرتاحون».
منذ التسعينيات كان لبنان يعاني من «العجز التوأم»، أي عجز الحساب الجاري وعجز الموازنة ما أدّى في النهاية إلى انفجار الفقاعة المالية. أما اليوم بعد الانهيار، يمكن رصد إخفاء عجز الموازنة، إضافة إلى عجز كبير في الميزان التجاري ويتزامن ذلك مع تثبيت هشّ في سعر الصرف. هل هذا يعني أن لبنان عاد إلى مسار مراكمة الخسائر نحو انفجار جديد؟
– صحيح، قد يظهر أننا عدنا إلى المسار نفسه، إلا أنني لا أعتقد أننا انحرفنا عن المسار الأساسي في السنوات الأربعة الماضية. فالخلل البنيوي في الاقتصاد لم يتم إصلاحه. يجب تحفيز القطاع الخاص، ويجب أن يكون لدينا إنتاج كي نصدّر أكثر ونستورد أقلّ. غير أن ما حصل هو العكس، ما أدّى إلى ارتفاع كبير في العجز التجاري ليبلغ مستويات ما قبل الأزمة.
فعلياً لا تعافي في الموازنة ولا تعافي في البنية الاقتصادية. هذا العجز التوأم كان سبباً أساسياً للأزمة. الآن لدينا عجز مبطّن في الموازنة، وعجز واضح في الميزان التجاري. وهذا يغطي على الخلل الاقتصادي البنيوي. لا توجد محاولات لإصلاح هذا الخلل لأن أصحاب المصالح لا يريدون اقتصاد سوق رغم أنهم إلى جانب السلطة يردّدون دائماً أنهم يريدون اقتصاداً حرّاً. كلامهم فارغ، لأن من يريد اقتصاد سوق عليه بناء مؤسسات الدولة. اقتصاد السوق يتطلب دوراً مهماً للدولة، وليس كما يعتقد البعض أنه يجب إلغاء دور الدولة. ما يريده هؤلاء هو اقتصاد ريع يستفيدون منه لتحقيق أرباح هائلة عبر توزيع الموارد داخله. وهذا يفسر لماذا اقتصادنا مبني على الاحتكارات في ظل غياب تام للمنافسة الجدية في القطاع الخاص ولا يخلق فرص عمل وليس قادراً على الإنتاج والتصدير. خلال الأزمة ومع تدهور سعر الصرف كان يفترض أن يزدهر القطاع الصناعي والزراعي، لكن الصادرات لم تتغير. أصحاب النفوذ في القطاع الخاص أو الهيئات الاقتصادية الكبيرة يرون اقتصاد السوق خطراً عليهم. هم لا يريدون منافسة شرعية بل المحافظة على الاحتكارات التي تحقق لهم أرباحاً عالية.
ما الذي ينتج من العلاقة الدينامية بين العجز المالي والعجز في الميزان الجاري، على الاقتصاد والمجتمع؟
هذا ليس نقاشاً اقتصادياً ولا محاسبياً، بل سياسي بامتياز لأن المسألة مرتبطة بوجود قرار تنتفع منه فئة وتدفع كلفته فئة أخرى. فالمواطن يمثّل الحصّة الأساسية في الإيرادات المحصّلة، مقابل حصّة منخفضة للشركات سواء لأن معدلات الضريبة التي تطالها منخفضة أو بسبب التهرّب الضريبي… هذا قرار. النفقات تموّل أجور القطاع العام الموزعة على الإدارة العامة والمتقاعدين والأسلاك الأمنية والقضاة والأساتذة والعاملين في السلك الديبلوماسي… في إطار هذا التوزيع لا تبدو كلفة الإدارة باهظة، إنما تظهر الفوائد العالية على الدين التي يبلغ مجموعها على مدى 30 عاماً نحو 90 مليار دولار، وهي سدّدت من الخزينة وذهبت مباشرة إلى القطاع المصرفي كأرباح. لا نغفل أن الفوائد العالية على سندات الخزينة هي بمثابة دعم للأغنياء بالتوازي مع حماية عبر تثبيت سعر الصرف لحماية حاملي سندات الخزينة من خطر تدهور العملة. كل هذه القرارات خلقت زيادة في اللامساوة نتيجة توزيع الثروة من الفقراء إلى الأغنياء. في هذا الإطار استخدمت المصارف الأموال التي كانت تستقطبها من خارج وداخل لبنان، لتمويل الدولة بدلاً من تمويل القطاع الخاص طمعاً بالربح السريع. هم كانوا على علم بالمخاطر المترتبة عليهم من تمويل الدولة، وهم كانوا يجاهرون بذلك علناً عندما يطالبون بإصلاح الدولة من الهدر. هكذا أسهمت المصارف في ضرب القطاع الخاص، وغالبية الشركات التي تأسّست في آخر 30 سنة، كانت ذات طابع ريعي إما عقاري أو لاستقطاب أموال الخزينة. في النتيجة تحول الاقتصاد إلى شكل لا ينتج فرص عمل لذوي المهارات العالية ولم تعد أمام الشباب فرصة سوى الهجرة. هنا ندخل في دوامة أخرى، وهي التحويلات من المهجر التي تخدم استدامة النظام الريعي وتمول العجز.
ما الذي تغيّر في إطار هذه الحلقة التي تربط بين سعر صرف ثابت وعجز في الموازنة واستهلاك مفرط؟
– عادت إلى العمل على مستوى سعر صرف متدهور في ظل اقتصاد منهار بنسبة 50%. أما الهيكل الاقتصادي لهذه الحلقة، فلا زال قائماً، بل أصبح أسوأ، لأن هذا الاقتصاد لا يمكن أن يتحول إلى منتج. كيف يمكن أن نفسر استيراداً بـ 18 مليار دولار سنوياً؟ إذا جمعنا أرقام التحويلات والسياحة والمساعدات والقروض لا تصل إلى 18 مليار دولار. إذاً، ما حجم تبييض الأموال وتجارة المخدرات؟ لا أحد يعرف. اقتصاد الكاش أعطى فرصة لتوسع القطاعات غير الشرعية. أجرينا دراسة تبين أن السلع الفاخرة استعادت حجمها إلى مستويات ما قبل الأزمة بثلاث سنوات. وإذا نظرنا إلى النشاطات الاقتصادية التي تصنف ريعية، فإنه في السنوات الثلاثة الماضية، حققت هذه النشاطات أرباحاً طائلة لم تدفع أي ضريبة عليها، من عمليات صيرفة، ورسوم جمركية مخفضة، وتسديد القروض بأسعار صرف متدنية.
في ظل توسّع الاقتصاد غير النظامي والهجرة المتداخلة بين سوريين ولبنانيين… هذا المسار إلى أين ممكن أن يأخذ البلد؟
– هذا المسار مخيف أكثر من الذي سبق. فمن جهة لدينا مجتمع تزداد فيه أرقام الفقر والبطالة والأنشطة الاقتصادية التي لا تسمح للمقيمين بالدخول إلى سوق العمل. ومن جهة أخرى هنالك تغيير ديموغرافي كبير في تركيبة المجتمع في الهرم العمري السكاني. هذا التغيير ينطوي على تداعيات سيئة جداً في المستقبل لن نلمسها الآن. في لبنان يفتخرون بتصدير رأس المال البشري عبر موجات من الهجرة، لكن في المستقبل قد نصدّر شباباً بمهارات أدنى وبالتالي مردود مالي أدنى. ومجتمع المقيمين سترتفع فيه نسبة المسنين، لذا لا يبدو واضحاً كيف سنتأقلم مع هذا الشكل من ناحية النفقات والخدمات، وما إذا كان يجب اتباع نظام ضريبي موحّد على رؤوس الأموال في الخارج لأن القاعدة الضريبية في الداخل انخفضت. في ظل كل هذا التغير الذي يشمل بنية السكان وقطاعات التعليم والصحة وهروب الرساميل، يجب التفكير في أي اقتصاد يمكن بناؤه، وأي موارد متبقية، وأي تغيرات تحصل في المنطقة.
هناك سردية قائمة على أن تثبيت سعر الصرف هو إنجاز، وهذا ما يحصل الآن لدى السلطة النقدية التي ترى في التثبيت هماً أساسياً، فهل نحتاج إلى سعر صرف ثابت؟
– لم يكن لدينا سعر صرف ثابت قبل الحرب الأهلية، إنما حصل الأمر في التسعينيات كجزء أساسي من المنظومة الاقتصادية. برأيي هذا الأمر ليس منفصلاً عن التغيير السياسي الذي تجسد في الطائف. هنا أربط السياسية المالية والاقتصادية بالتغيرات السياسية وتوزيع النفوذ والسلطة السياسية. قبل الطائف، كان رئيس الجمهورية يجسّد السلطة التنفيذية المعنية بالقرارات الاقتصادية النهائية. لكن بعد الحرب تغيرت المعادلة، وتحولت السلطة التنفيذية إلى مجلس الوزراء، ما يعني أن إقرار الموازنة أولاً يتطلب موافقة الحكومة المكوّنة من نفوذ الزعماء بلباس طائفي لتوزيع النفقات. وهذا سبب أساسي لخلق العجز والدين. في هذا السياق جاء تثبيت سعر الصرف فضلاً عن أنه لحماية حاملي السندات من مخاطر تقلبات العملة ولتأمين التحويلات بهدف تمويل العجز، (الأموال تأتي بسهولة إلى سعر صرف ثابت وتتحوّل من الدولار إلى الليرة بسهولة). لذا، كل ما يقال في هذا المجال عن مسؤولية المواطن في الاستيراد والاستهلاك وتبديد العملات الأجنبية، هو أمر غير صحيح، فالمسألة ترتبط بالقرار السياسي. فلنأخذ كوريا الجنوبية مثلاً، التي لم تكن تسمح بإخراج العملة الأجنبية من البلد إلا للضرورة، لذا كانت كل الأموال تذهب إلى الاستثمار في القطاع الصناعي.
تثبيت سعر الصرف في لبنان هو وهم لكيّ الوعي المرتبط بانعدام الاستقرار، إنما فعلياً نحن نشهد تدهوراً في المستوى المعيشي بلا خلق لفرص عمل وتم تهجير وتهميش وتفقير المجتمع.
برأيك ما هي التضحية المطلوبة اليوم لكي نتجاوز خسائر الماضي؟
تضحية المجتمع تمثّلت اليوم عبر تحميل العبء لأصحاب الدخل المتوسط والمنخفض. ما حدث هو تخصيص الأرباح وتعميم الخسائر. كل الأرباح تقاسمها أصحاب النفوذ، بينما رميت الخسائر على المجتمع. يجب أن يضحي اليوم الذين استفادوا من الأموال والفوائد العالية.
كيف تجعلهم يدفعون وهنالك سور حولهم اسمه قدسية الودائع؟
واضح جداً أن المصارف ترفض التضحية. لكن قبل ذلك، هناك تنافس على تراتبية مسؤوليات توزيع الخسائر بين من يقول أن الدولة أولاً أو مصرف لبنان أولاً أو المصارف… إلا أن المثير للعجب في هذه السرديات، هو الفصل بين الجهات المعنية بالمسؤولية باعتبارها جهات مختلفة. هذا تشخيص خاطئ لأنهم كلهم جهة واحدة. من يمسك بمفاصل الدولة ومؤسساتها؟ الأحزاب الحاكمة. هذه الأحزاب إما استثمرت أو لديها حصص أو تملك بشكل كامل المصارف في لبنان. وتبين من تقرير ألفاريز أن مصرف لبنان هو عبارة عن شخص واحد، كان يلعب دور المايسترو وهو رياض سلامة. بمعنى أوضح، كل هذا الترتيب هو وهمي، وليست كل الودائع مقدسة بل هناك أموال غير شرعية وأرباح فاحشة… هؤلاء يجب أن يضحّوا.
كريم الأمين-الاخبار