150 ربطة خبز يرسلها “حمودي” أسبوعياً إلى سوريا
يُحكى كثيراً عن التهريب بين لبنان وسوريا وترتفع أصوات مندّدة بانعكاسات التهريب المدمّرة على الإقتصاد اللبناني وضرورة ضبط المعابر وطرق التهريب، وتُتّخذ إجراءات تبقى حبراً على ورق… لكن على خط بيروت – دمشق لا حاجة للتهريب تحت جنح الظلام ولا عبر معابر غير شرعية فالخط مفتوح أمام اللبنانيين والسوريين ليتبادلوا تجارة يومية ناشطة جداً تكاد تكون شرعية. تجارة تعود على السوريين بمردود يوميّ يفوق حدّهم الأدنى للأجور وتخفّف على اللبنانيين الإكتواء بنار الأسعار في لبنان.
في طريقه الى الشام في زيارة خاصة، أقلّ «مجيد» معه عن الطريق بعد بلدة شتورا ضابطين سوريين أحدهما برتبة نقيب وآخر برتبة ملازم أول. لم يكونا في مهمة عسكرية خاصة في لبنان بل جاءا الى البقاع في رحلة أسبوعية روتينية لحمل ما تيسّر من بضائع لبنانية. أحدهما كان يحمل ثلاثة غالونات من زيت القلي فيما الثاني كان أكثر تحفظاً يحمل في جيب جاكيته رزمة من بطاقات التشريج «البريطانية» المباعة في لبنان. وظيفة رديفة وجد فيها الضابطان مجالاً للربح يفوق راتبهما بأضعاف. بمشوارين أسبوعياً وبشحنتين شرعيتين بالكامل ويكون الربح حوالى 100000 ليرة سورية أي ما يعادل 7 دولارات. وحين ندرك أن الحدّ الأدنى للأجور في سوريا بعد زيادة الـ50% التي أقرّت مؤخراً صار حوالي 278910 أي 6,99 دولارات يمكننا أن نفهم أن الرّبح الأسبوعي حرزان خصوصاً بالنسبة للبضائع التي لم تعد متوافرة في سوريا أو التي ارتفع ثمنها بشكل كبير.
نغوص أكثر في هذه التجارة المزدهرة ونجول على بعض مكاتب التاكسيات العاملة على خط دمشق – بيروت. ونكتشف أولاً أن تطبيق القوانين في سوريا أكثر تشدّداً ممّا هو عليه في بيروت بأشواط. فالتاكسي السوري الذي يعمل على خط بيروت لا بدّ أن يكون مسجّلاً وينطلق من موقف خاص في قلب العاصمة دمشق مثل موقف «السومرية» أو «البرامكة» نحو بيروت. في لبنان قانوناً ممنوع أن ينزل الراكب السوري إلا في الموقف المعتمد والمسجّل لكنّ السائقين السوريين يتحايلون على القانون وينزلون الراكب إما في الحازمية أو على جسر شارل الحلو أو قرب الرحاب أو المدينة الرياضية حتى يتجنّبوا دفع «كومسيون» للموقف. بعض الآتين الى لبنان يستخدمون سياراتهم الخاصة بعد أن يقطعوا دفتراً لمدة سنة يخوّلهم التنقل بين سوريا ولبنان. أما الذين يصلون بالتاكسي أو بالباصات ويودّون التنزه والتسوّق في لبنان فيلجأون الى «تاكسيات» لبنانية في ظاهرها لكنها في الواقع مملوكة من أشخاص سوريين يسجّلونها بأسماء لبنانية مقابل بدل. قليلها يحمل نمرة عمومية حمراء وكثيرها نمر بيضاء خاصة أو يستأجرون موتوسيكلاً «لبنانياً» يملكه سوري حاصل على إقامة لبنانية. وهكذا يصبح للسوريين القادمين الى لبنان شبكة نقل خاصة بهم يكتشفونها بالأخبار المتناقلة بين بعضهم البعض.
أما الانتقال من بيروت الى سوريا فيتمّ مبدئياً عبر مكاتب مرخّصة تعمل في مواقف معروفة وتنطلق منها نحو الشام، وموجودة في المناطق التي تشهد اكتظاظاً سورياً أكثر من سواها مثل الدورة، برج حمود، الكولا وغيرها ولا يخلو الأمر من مخالفات على الطريقة اللبنانية حيث إن بعض هذه المكاتب غير مسجل أو شرعي فيما بعضها الآخر شرعي لكنه يستخدم مثلاً سيّارتين بنمر عمومية وسيارات أخرى بنمر خاصة للتحايل على القانون. واليوم وبعد توقف محطة شارل الحلو إثر انفجار المرفأ نشأت محطات رديفة تنطلق منها الباصات نحو سوريا وأهمّها محطة قرب المدينة الرياضية خلف سوق الخضار. عبر شبكة النقل هذه يتمّ يومياً نقل الناس والبضائع بالاتجاهين. حتى أن السوري الموجود في لبنان ليس مضطراً للذهاب الى سوريا شخصياً للتجارة أو إرسال أغراض الى ذويه بل يكلف سائقي البولمانات والباصات والتاكسيات بحمل ما تيسّر لقاء عمولة معينة. وينشط نواطير البنايات وعمال الديليفري السوريون في نقل بضائع الى أهلهم وقد أخبرنا أحد سائقي البولمان أن «حمودي» يرسل أسبوعياً ما بين 150 الى 200 ربطة من الخبز اللبناني المدعوم الى الشام… ومثله يفعل كل نواطير المنطقة. فلطالما كان الخبز اللبناني سلعة مشتهاة في سوريا فكيف به اليوم وقد بات سعره أرخص من هناك ونوعيته أفضل بكثير؟
«تجرة» يربح بواسطتها حمودي أسبوعياً أقله 3,500,000 ليرة. ومثله وأمثاله يفتكون بالخبز اللبناني المدعوم و يصدّرونه الى سوريا… ويقوم السائقون بحمل كل ما يطلبه منهم الناس في سوريا من مواد مقطوعة أو مواد أجنبية مستوردة مثل الشوكولا والنسكافيه ومستحضرات التجميل أو ما يرسله السوريون من لبنان الى أهلهم لقاء عمولة كما ذكرنا يضطرون الى دفع بعضها رشاوى على الحدود. ومن السلع المطلوبة الهواتف وأكسسواراتها فهذه يسهل إخفاؤها وعدم الكشف عنها على الحدود بينما الإلكترونيات الكبيرة قد تصادر على الحدود أو يمنع إدخالها. وتعتبر خطوط التشريج «البريطانية» مرغوبة جداً إذ يمكن استعمالها للواتساب في سوريا كما في لبنان على عكس بطاقات تاتش وألفا التي لا تعمل في سوريا. وهذه البطاقات تستعمل عادة لتشريج بعض ألعاب البلايستايشن وغيرها لكن صارت مصدر ربح وتجارة مزدهرة بين البلدين. كما بات السائقون وسطاء يحملون الى لبنان الأدوية السورية التي يتم طلبها من قبل المرضى اللبنانيين.
ومن أحد السائقين اللبنانيين علمنا أن عاملاً سورياً وهو ناطور مبنى في منطقة سكنية راقية يرسل أسبوعياً الى زوجته في سوريا حوالي 400 دولار أميركي تستلمها باليد لتتابع بناء البيت الذي يشيدانه في منطقة ريف دمشق. كثيرة هي المشاهدات التي يطلعنا عليها السائق ومنها السيارات الرباعية الدفع التي تعود الى سوريا محمّلة بقناني الغاز وغالونات الزيت. فالغاز مقطوع هناك ويجب تقديم طلب للحصول على قنينة منه ولا يحقّ للشخص أكثر من جرّة واحدة كل شهر ونصف، والذين يمرّرونها عبر الحدود يدفعون «برطيلاً» يتراوح من 20 الى 50 دولاراً أو أكثر حسب الكمية.
تجارة معاكسة
في الاتجاه المعاكس أيضاً تجارة مزدهرة تحمل بصمات أكثر شرعية فاللبنانيون باتوا يتوجّهون الى سوريا بالمئات أو الآلاف أسبوعياً ليعودوا من هناك ببضائع كثيرة لا تزال أسعارها أدنى ممّا هي عليه في لبنان ولينالوا خدمات منوّعة باتت خارج ميزانياتهم في بلدهم. عشرات البولمانات تتوجّه في عطلة نهاية الأسبوع الى الشام للسياحة والتسوق أو في»حملات» منظمة لزيارة العتبات المقدسة في الشام وأبرزها السيدة زينب والسيدة رقية ومعظم الزوار من الطائفة الشيعية لذلك تراجعت قليلاً وتيرة الحملات مؤخراً إثر الحرب الدائرة في الجنوب. وتلقى هذه الحملات إقبالاً شديداً بحيث وصل عدد البولمانات المنطلقة في بعض الأحيان الى حوالي مئتي بولمان كلفة الشخص فيها 20 دولاراً. ومن الجانب الآخر تزدهر الرحلات «المسيحية» الى صيدنايا ومعلولا.
والى جانب الطابع الديني للزيارة يعمد هؤلاء الزوار مثلهم مثل باقي السياح الذين يقصدون دمشق في رحلات سياحية منظمة الى التبضّع من الأسواق الدمشقية. وتأتي الحلويات العربية في طليعة ما يحمله العائدون وإن كانت أسعار المحلات الكبرى توازي أسعار لبنان. ولكنه بات عرفاً قائماً أن يحمل كل شخص الحلويات لبيته وعائلته والأصدقاء. تلي ذلك في لائحة السلع الأكثر طلباً الأدوية وهي كما عرفنا أدوية سورية المنشأ أو إيرانية بات الأطباء في لبنان يصفونها حين يتعذّر إيجاد المرادف لها او حين يكون سعره مرتفعاً جداً. وباتت تجارة الأدوية بين البلدين مزدهرة ورابحة جداً تدخل فيها العمولات وكلفة التوصيل والإكرامية وغيرها… ويتهافت اللبنانيون بشكل خاص كما علمنا من «جوزيف « وهو صاحب أحد البولمانات على شراء الحبوب والبقوليات من أسواق البزورية مثل الفاصوليا العريضة والفول واللوبياء وحتى اللحوم والأجبان والألبان لا سيما المكبوسة منها. ويقول «جوزيف» «يحمل اللبنانيون هذه المواد بكميات كبيرة ويدفعون للبولمان مبلغاً إضافياً قدره دولاران او ثلاثة حتى نستطيع دفع البرطيل على الحدود تجنّباً لدفع الجمرك الشرعي عليها. وندفع لكل رحلة محمّلة بالأغراض حوالي 100 دولار برطيل عن الذهاب والإياب. وننصح الركاب بألا يحملوا أكثر من عشرة كيلوغرامات من البقوليات حتى لا يضطروا لدفع جمرك ونعود ببولمان «ملبود» بالأغراض المتنوّعة. شخصياً كل مؤونة بيتي أشتريها في رحلاتي الأسبوعية الى الشام ومنذ سنتين لم أتناول الجبنة واللبنة إلا شغل سوريا».
العروس علينا والجهاز عليهم
لا يزال تجهيز العرائس من الشام عادة متّبعة عند الكثير من العائلات لا سيما أن الأسعار هناك أوفر بكثير من عندنا. البرادي، بدلات الأسرّة، المناشف وحتى الملابس الداخلية وفساتين الزفاف يمكن للعروس العودة بها من هناك… وإذا أرادت العروس إنهاء كل تحضيراتها في الشام يمكنها أن تقصد طبيب أسنان هناك لتصلح ما أفسده الدهر أو لتحصل على ابتسامة ناصعة. وقد صارت زيارة طبيب أسنان سوري من العادات المستجدّة بعد أن باتت كلفة معالجة الأسنان في بيروت فوق طاقة الكثيرين. ويشهد هذا القطاع في سوريا ازدهاراً ملموساً كما شهد قبله قطاع أطباء التجميل ازدهاراً كبيراً ما لبث أن تراجع بفعل الأخطاء والتشوّهات التي ظهرت وأخافت الكثيرات…
أما بالنسبة للرجال فسوريا هي «جنة قطع السيارات» هناك يجدون ما يعجزون عن شرائه في المناطق اللبنانية. وقد يفسّر هذا سبب ارتفاع نسبة سرقة السيارات في لبنان. كذلك تعتبر الطباعة هناك أرخص من هنا لذلك يعمد الكثيرون الى طباعة «البزنس كارد» هناك فهو لا يحتاج الى أكثر من ساعتين ليكون جاهزاً بالكمية المطلوبة وبكلفة تعادل نصف كلفته في لبنان.
ومن يستصعب زيارة سوريا من اللبنانيين يمكنه بكل سهولة الحصول على ما يبغيه من البضائع السورية من منطقة البقاع: من شتورا وعنجر وسعدنايل وغيرها من البلدات البقاعية التي تحوّلت الى مدن سورية مكتملة المواصفات بسكّانها ومتاجرها بحيث يمكن إيجاد كل البضائع السورية الصنع من مواد غذائية ومعلبات وبسكويت ومكسرات وفاكهة مجففة ومواد للتنظيف وصناعات بلاستيكية وألبسة وغيرها لتستمرّ أسطورة «شعب واحد في بلدين»…
زيزي اسطفان -نداء الوطن