حتى الموت صار “تراند”… QR Code على الضريح والميت أونلاين
في زمن الذكاء الإصطناعي وفورة مواقع التواصل، حتى الموت صار online وصار لزاماً أن يبقى الميت connected حتى بعد رحيله فلا يغيب عن الواقع الإفتراضي ولا عن الذاكرة. فكرة جديدة وصلت إلى لبنان بعد الدول الغربية، تقوم على وضع QR Code على ضريح الشخص المتوفي، ليتمّ مسحه عبر الهاتف أو أي جهاز إلكتروني والإنتقال فوراً إلى صفحة أو موقع يضمّ مجموعة من الصور والفيديوات للراحل أو شهادات عنه لتبقى ذكراه حية.
للوهلة الأولى تبدو الفكرة مؤثرة جميلة ومواكبة لعصر التكنولوجيا والتواصل الاجتماعي وهي كما يسمّونها في الغرب «الذكرى الحية» التي لا تندثر مطلقاً فطالما الإنترنت موجود تبقى كل الذكريات محفوظة في مكان واحد الى أبد الآبدين… في لبنان جاءت فكرة الـQR على القبر عبر شركة MemorialMemoirs.Qr التي أطلّ صاحبها ربيع الأثاث عبر صفحته على الإنستغرام ليعلن عن «منتجه» الجديد ويشرح للناس أهمية تخليد ذكرى الفقيد، لا من خلال صورته وتسجيل اسمه وتاريخ وفاته فحسب كما جرت العادة، بل عبر الانتقال بمسحة كاميرا بسيطة الى الصور والفيديوات والشهادات والإنجازات المؤثرة جداً التي توثّق حياته وتلخّص ذكرياته.
الموتى الأحياء…
في عرضه فكرته، يقدّم صاحبها وفي بثّ حي من داخل إحدى المقابر، مجموعة من المميّزات، التي تضاف الى الهدف الأساسي منها، فمسح الـQR عملية سهلة جداً كما يظهرها لنا تتيح الدخول الفوري الى كل الصور والفيديوات التي اختارها أهل الفقيد وأرسلوها الى الشركة. والـ QR مقاوم للماء لا يمحوه مطر ولا سيول كما أن خدمة التوصيل متوافرة الى جميع المناطق مجاناً وكلفة التنفيذ لا تتعدّى 15$. إضافة الى ذلك يمكن لأهل الفقيد (أو العملاء) كما يقول الإعلان المرفق أن يرسلوا مقاطع الفيديو أو الصور دون الحاجة الى تحريرها أو تعديلها، فالشركة تقدّم خدمة التحرير والمونتاج المهني بتكلفة تتوافق مع احتياجات العميل الخاصة مع توفير أعلى مستويات الجودة والإبداع… وعلى الصفحة الخاصة بالشركة مجموعة أقوال وجدانية تبرز أهمية تكريم الفقيد وتخليد ذكراه بشكل فردي مميّز بعيد عن النمطية يربط الماضي بالمستقبل ويبقي إرث الراحل حيّاً في قلوب كلّ من عرفوه وأحبّوه…
الفكرة مؤثرة بالطبع وهي في الغرب فكرة عادية جداً ومقبولة ومطلوبة ولكن في بلد كلبنان يتحوّل فيه كل شيء الى مثار للتندّر والسخرية والتنمّر والفكاهة انقضّ عليها الكوميديون ليبالغوا في رسم تجليّات أخرى لها. عماد كعدي ابتكر فكرة ساخرة لشركة رديفة هي: «قوم _ما بيلبقلك» تسمح لأهل الفقيد أن يعيشوا مع الراحل سنوات إضافية وذلك عبر تسليمهم هاتف الفقيد للشركة وهي تتولّى إبقاءه ناشطاً على واتساب وإنستغرام وفايسبوك وحتى على لينكد إن لأنه قد يكون «ميتاً لإيجاد عمل». على إنستغرام يقول كعدي ساخراً سوف يستمرّ الفقيد بتنزيل «ستوريز» يومية وعلى واتساب سيبقى ناشطاً في كل الغروبات ويشارك في مشاريعها وكل هذا بمئة دولار في الشهر فقط وبـ20 دولاراً إضافية يمكن أن يطلع لايف على تيكتوك حتى لا ينحرم محبّوه وعائلته من رؤية فقيدهم بشكل يومي…
تخليد للذكرى أم إنتهاك لحرمة الموت؟
بزنس مربح، سخرية وتندّر أم انتهاك لحرمة الموت؟ كل الأديان السماوية كما الثقافات والحضارات المختلفة تجلّ الموت وتحيطه برهبة خاصة وتضع له حرمة لا يجوز انتهاكها. فهل يتجاوز مبدأ الـQR هذه الحرمة ؟ وما رأي علم النفس والأديان بهذه الطريقة لإحياء ذكرى المتوفي؟
زينة حبيش الاختصاصية في علم النفس العيادي تؤكد على حرمة الموت وتقول لـ»نداء الوطن» إن تخليد ذكرى الراحل يجب أن يتمّ باحترام تام لحرمة الموت من جهة واحترام لإرادة الفقيد من جهة أخرى. فما تقوم به العائلة أو المقرّبون بعد وفاته قد لا يكون موافقاً عليه خاصة أن طريقة الـQR تجعل من المتوفي شخصية عامة يمكن لأي كان الاطلاع على صورها وذكرياتها وعلى أمور شخصية جداً دون أن يكون له في ذلك أية كلمة أو قرار. صحيح أن العائلة قد تقوم بالأمر بنية طيبة لكنها لم تحظَ بموافقة مسبقة وليس لها الحق باتخاذ قرار عن شخص لم يعد موجوداً. وقد تقوم بنشر فيديوات كان الراحل ربّما يودّ الاحتفاظ بها لنفسه وإبقاءها خاصة، وتداعيات هذا القرار الذي يحوّل الذكريات الخاصة الى أمور يمكن للجميع الاطلاع عليها قد لا تكون دوماً إيجابية. رغم النية الطيبة وراء الفكرة، تؤكد حبيش، إلا أنها تثير جدلية كبيرة. فالصور أو الكتيبات التي توزع في مراسم الدفن تبقى محصورة في الزمان والمكان وتوزّع على أفراد مقرّبين معروفين وهي تخلّد ذكرى الراحل بطريقة تحمل الكثير من الاحترام أما أن تعمّم الصور والفيديوات بحيث تصبح متاحة أمام الجميع ففي هذا انتهاك واضح لكل الحرمات. ففي علم النفس كما في الواقع، يمكن للكثير من الأشخاص المنحرفين أو أصحاب الاضطرابات أن يستعملوا هذه الصور لأغراض معينة ربما لتحريفها أو للإساءة الى صاحبها ومن يظهر معه في الصور أو حتى استغلالها لأغراض أخرى أو ربما للسخرية منها. يصعب تخيّل ما يمكن للشخصيات المضطربة أن تفعل أو كيف يمكنها استغلال هذه المواد التي باتت متاحة أمامها بمجرّد دخولها الى المدافن وثمة أمثلة صادمة عن أشخاص يدنّسون حرمة الميت أو يقومون بأعمال وتصرّفات غريبة وقد تحدث في أي مكان وزمان.
حتى الموت صار «تراند»
لا شكّ أن بعض الناس يسيرون وراء تراند معين تقول حبيش ويماشون موضة التقنيات الجديدة ولكن لا بدّ من التنبيه الى المحاذير. فالأهل يمكنهم تذكر فقيدهم بصورة شخصية عبر صوره وذكرياتهم معه، ونفسياً من لم يتخط موت عزيز يصعب عليه مشاهدة صوره أما من يودّ التذكّر فأمامه الكثير من الخيارات الفردية. حتى صفحات التواصل الخاصة بالراحل ليست مفتوحة بشكل كلي بل يمكن لأشخاص محدودين الدخول إليها فيما رمي الصور أمام العامة وفتحها على مستوى كبير يمكن أن يشكل إهانة للراحل رغم النية الطيبة. من جهة أخرى فإن ردّ الفعل الهزليّ على هذه الفكرة هو استخفاف مشين بالموت وبمشاعر الألم والحزن ويثير الضحك على موضوع مؤلم لا يزال يشكّل صدمة لمن فقد عزيزاً.
ad
في بلد الطوائف ما هو رأي رجال الدين بهذا الموضوع؟ الأب بيار شمالي الماروني لم يجد في الفكرة ما هو مخالف لتعاليم الكنيسة الكاثوليكية رغم كونها فكرة غريبة على تقاليدنا ومجتمعنا الشرقي. ويقول في المبدأ ليس فيها ما يخالف التعاليم الكنسية شرط أن يكون محتوى الذكريات لائقاً وليس فيه ما يسيء الى الشخص الراحل وذكراه. لكن يتساءل الكاهن ما الهدف منها؟ فالمقرّبون ليسوا بحاجة الى ما يذكّرهم بفقيدهم أما الأبعدون فلن يكونوا مهتمين في ما بعد باستذكار الراحل. خلال الدفن يمكن أن يتم توزيع كتيبات تحوي شهادات عن الفقيد يحتفظ بها من يحضرون الدفن لفترة أما بعد ذلك فلا جدوى حقيقية من وضع معلومات وصور وفيديوات قد يقوم البعض بسرقتها مثلاً. الفكرة معقولة لكنها غريبة عن مجتمعاتنا ولا أظنّ أن الكنيسة يمكن أن تتقبّلها بسبب تقاليدنا وثقافتنا التي تحترم حرمة الميت وخصوصيته، كما أن لا هدف حقيقي من ورائها إلا ربما الهدف التجاري. ومن جهة أخرى في مقابرنا المسيحية المقفلة في معظمها أين يمكن وضع هذا الرمز؟
من جهته يقول الشيخ حسين اللاذقاني أنه في شرع الدين الإسلامي لا مشكل في هذا الأمر ويمكن وضع صور الراحل ليطلع عليها الجميع إلا في حالة واحدة إذا كانت الفقيدة امرأة غير محجبة فهنا لا يجوز نشر صورها أمام العامة وذلك بحكم الشرع أما إذا كانت محجبة فلا اعتراض على نشر الصور والفيديوات. فالأهل يحق لهم إرسال صور محبّيهم الى من يشاؤون وحتى فتح الأمر أمام العامة لا مشكلة شرعية فيه.
ad
إذاً بزنس الـQR Code لا يتعارض مع تعاليم الأديان ويبقى التحفّظ الوحيد عليه إمكانية استغلال الصور والفيديوات لأغراض مختلفة لا سيما في زمن الذكاء الاصطناعي الذي بات قادراً على استعمال صوت شخص ما على فيديوات لأشخاص آخرين وفي هذه الحال من يضمن عدم وصول المحتوى الرقمي للراحل الى أيدٍ يمكن أن تتلاعب بها بشكل سلبي جداً؟
مدفن إفتراضي يعيد الصلة بين الغربة وتراب الوطن
في رواية «طشاري» (صادرة عن «دار الجديد») التي ترسم واقع العراقيين في منفاهم في دول الغرب بعد انسلاخهم عن وطنهم الأم قسراً تبتكر الروائية العراقية إنعام كججي طريقة للعودة الى تراب الوطن بعد الموت. وفيما يبحث كل «المطيشرون» في الأرض عن أمكنة وفضاءات بديلة يستعيدون فيها شيئاً من ملامح وطنهم ويلتقون فيها مع أحبّة لهم تتخيل الكاتبة من خلال بطلتها وردية هذا الفضاء المشترك بطريقة أخرى، وذلك عبر إنشاء مدفن إلكتروني حيث يقوم اسكندر ابن شقيق وردية بتصميمه بمساعدة منها ليكون مطابقاً للمدافن في أرض الوطن وبهذا ينشئان معاً مدفناً افتراضياً يسهّل على ذوي الموتى المنتشرين في أصقاع العالم زيارة مقابرهم افتراضياً. ويخصّص اسكندر لكل شخص متوفٍ موسيقى خاصة وبمجرّد تحريك الفأرة على الاسم تسمع الموسيقى ويظهرُ القبر الافتراضي بشكل مشابه لما يحدث اليوم عبر الـQR Code
ad
تتحمسُ إحدى بطلات الرواية لحجز مكان لابنها المقتول في المقبرة الافتراضية، كما يكون جرجس زوج وردية حاضراً داخل هذا الفضاء. بهذا المدفن الافتراضي داخل شبكة الإنترنت يحاول «الطشاري» استعادة ذكرى من غابوا وزيارة ضريح لهم ولو عبر الشاشة وهو ما يطرح أزمة من أزمات الغربة والتهجير حين تنقطع الصلات بين الأحياء في الغربة وموتاهم في أرض الوطن. لكن التجربة لا تستمرّ لأن العالم الافتراضي يبقى بارداً خلف شاشة ويصعب أن يحلّ محل عالم الواقع بأفراحه وأحزانه.
زيزي إسطفان – نداء الوطن