“زحطة” الخماسية في مرحلة التحوّلات الكبرى
هي مرحلة التحوّلات الكبرى على مستوى رقعة الشرق الأوسط بكاملها. ولذلك لا بدّ للبنانيين الغارقين في أزماتهم الداخلية الخطيرة والمعقّدة، أن يقرأوا بدقّة وتمعّن وحنكة التطورات الإقليمية المتسارعة والتبدّلات الجاري صوغها.
ومن هنا، فإنّ الرهان اللبناني المبسّط حول قرب إقفال ملف غزة من خلال وقف لإطلاق النار في رفح والدخول بعدها الى ترتيبات تسووية ضّيقة، إنما هو رهان سطحي وقاتل في آن معاً. ولكي لا تلتبس الأمور على البعض، فإنّ الخلاف الأميركي ـ الإسرائيلي الذي يتصدّر المشهد الإعلامي إنما هو خلاف بين الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية، وليس أبداً بين الدولة الأميركية والكيان الإسرائيلي، والفارق شاسع ما بين المفهومين.
ذلك أن واشنطن وتل أبيب متفقتان على ضرورة ألاّ تنتهي الحرب في غزة إلاّ بعد «تصفية» الجناح العسكري لحركة «حماس»، لكن الخلاف هو حول الكلفة بين المدنيين، أضف الى ذلك سعي نتنياهو الى إنجاز حلم اليمين الإسرائيلي «برمي» غزة في البحر، وبالتالي تصفية القضية الفلسطينية، فيما تتمسك واشنطن بالحفاظ على الوجود الفلسطيني تحت مسمّى «حل الدولتين»، ولكن وفق قيود وإطار صارم، وعلى اعتبار أنّ لإسرائيل مصلحة في ذلك.
في ظلّ هذا المناخ، يعود وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن الى المنطقة للمرّة السادسة منذ اندلاع الحرب. لكن ثمة إشارتين معبّرتين سبقتا وصوله: الأولى تتعلق بإعلان مستشار الأمن القومي جيك سوليفان خبر نجاح إسرائيل في إغتيال الرجل الثالث في التنظيم العسكري لـ«حماس» مروان عيسى، وهو ما يمكن ترجمته بأنّه إشارة لمصلحة مضي إسرائيل في مشروعها العسكري لاجتياح رفح وتصفية القادة العسكريين لحركة «حماس». والثانية رفض نتنياهو حتى الساعة الردّ على طلب البيت الأبيض تزويده مسبقاً خطة رفح للتأكّد من قابلية تطبيقها وفق المعايير الأميركية، رغم مرور أكثر من ثلاثة أسابيع على ذلك. وهذا ما يعطي الإنطباع بأنّ ما يُحكى عن مفاوضات ومحادثات وتعديل شروط إنما يبقى في إطار استهلاك الوقت ليس أكثر. فبشيء من التدقيق يمكن الملاحظة انّه جارٍ وضع الركائز لمرحلة التحوّلات الكبرى، إن ميدانياً أو عبر المفاوضات الدائرة في الغرف المغلقة.
فالممر البحري الأميركي الجاري إنشاؤه بين قبرص وغزة ليس تفصيلاً ولا حتى حدثاً يحاكي الظروف الإنسانية. هو بالتأكيد أبعد من ذلك بكثير. فالممر البحري «الإنساني» والذي يلحظ عمل نحو 1000 جندي من المارينز في حاجة لتأمين المنطقة المحيطة عسكرياً، وهو أيضاً إقرار أميركي ضمني ببقاء الجيش الاسرائيلي في غزة، طالما أنّ مبدأ حماية الميناء ستكون من مسؤوليته. والرصيف العائم سيعني أيضاً الإستغناء عن المعابر البرية مع مصر، ما يعني عزل غزة عن تواصلها مع المحيط العربي.
ولا بدّ أيضاً من قراءة معنى نسج إسرائيل علاقات وثيقة مع بعض العشائر الغزاوية وهي الناقمة على «حماس» بسبب مآسي الحرب وتحمّلها مسؤولية الحرب غير المحسوبة جيداً. وسُجّل في هذا الإطار اشتباك مسلح بين إحدى العشائر «المتمرّدة» و»حماس» ادّى الى سقوط قتلى وجرحى. ويبقى من المهمّ الإشارة الى أنّ هذه العائلات متمركزة خصوصاً في المنطقة الوسطى الفاصلة بين شمال القطاع وجنوبه، وهي تحديداً المنطقة التي ستحتضن الميناء البحري «الموقت».
وفي الوقت نفسه يُحكى عن ورشة قائمة بنشاط داخل اللوبي اليهودي الأميركي بهدف استخلاص الدروس من عملية «طوفان الأقصى» والبناء عليها مستقبلاً، خصوصاً أنّ مرحلة التحولات الكبرى تشكّل فرصة في هذا المضمار. ووفق التسريبات المحدودة فإنّ ثمة اقتناعاً بأنّ الكيان الإسرائيلي كان مهدّداً بالزوال، وأنّ ضمان استمرار استمراريته مرتبط بوجوب إحداث تغييرات «جغرافية» جذرية في خريطة الشرق الأوسط. ومن هذه الزوايا يجب قراءة التطورات الميدانية في غزة، وآخر فصول الحرب في رفح. ومن هنا أيضاً يجب مقاربة التطورات الحربية الأخرى في البحر الأحمر وسوريا وطبعاً في لبنان.
لذلك لم يكن «سبقاً» صحافياً الكشف عبر الإعلام الأميركي عن المفاوضات الأميركية ـ الإيرانية غير المباشرة في سلطنة عمان أو البلد الأكثر كتماناً والتزاماً بالسرّية. في الواقع كانت رسالة تذكيرية أميركية بتفاهمات حصلت وتتعلق بالبحر الأحمر، في مقابل همسات بأنّ الحوثي تجاوز الهامش المعطى له وهو يندفع الى الأمام مبتعداً عن الحسابات الواقعية. ذلك أنّ الرسالة التذكيرية الأميركية كانت قد سبقتها خطوات عملية، كمثل توجيه تعليمات للقيادة البحرية بخفض مستوى الردّ الناري والعسكري. وقيل إنّ خطط الردّ الأميركي على استمرار استهداف السفن كانت ستشمل ضرب مخازن الصواريخ والأسلحة وحتى تنفيذ سلسلة أغتيالات عبر طائرات «الدرونز» لقيادات وكوادر عسكرية حوثية.
وأما في سوريا، فالوضع مختلف، حيث استمرت لا ازدادت عمليات الاستهداف للإيرانيين والقوى المتحالفة معهم. وكان معبّراً أن تستهدف الإغتيالات الكادرات الإيرانية الرفيعة وهو ما أدّى الى ترحيل عدد كبير منهم، كما أيضاً أن تتركّز الغارات على الخط البري الممتد من دير الزور الى القلمون، أو بتعبير أوضح، الطريق البري الذي يربط إيران بالبقاع في لبنان. وهذا الطريق شكّل أولوية ملحّة لإيران و«حزب الله» خلال الحرب في سوريا.
وفي جنوب لبنان، تريد واشنطن تنفيذ تدابير جذرية بذريعة ضمان عودة المدنيين الى منازلهم عند جانبي الحدود، فيما الهدف الحقيقي هو إزالة خط التماس العسكري بين إيران وإسرائيل بنحو ثابت ودائم تحت عنوان وقف الحرب الدائرة ومنع تدحرجها الى حرب مفتوحة، ولو مع ترك ثغرة مزارع شبعا كجرح مفتوح وخارج نطاق الحل في الوقت الراهن. لكن للترتيب الجنوبي شقاً يتعلق بالتفاهمات الأميركية ـ الإيرانية، وشقاً آخر يتعلق بالخصوصيات الميدانية لـ«حزب الله». فمرحلة التحولات الجاري صوغها، والتي تتمسك إيران بإنجازها في موازاة الفصل الأخير من حرب غزة، وقبل دنو موعد الإنتخابات الرئاسية الاميركية ومفاجآتها المحتملة، تشمل الساحة اللبنانية بكل تأكيد، والمعادلة التي ستظلل لبنان للمرحلة المقبلة بما يتلاءم مع تفاهمات الغرف المقفلة. ومع عدم إغفال سعي واشنطن لضمان واقع الساحل الشرقي للبحر المتوسط.
ولهذا بدأت منذ فترة لا بأس بها التحضير للدور الأساسي الذي سيتمّ إيلاؤه للجيش اللبناني وعلى قاعدة استعادة حضور الدولة اللبنانية، ولكن من دون أن يشكّل ذلك تحدّياً لـ«حزب الله».
ومن هنا، يمكن مقاربة الملف الرئاسي، وبالتالي تفسير فرملة «حزب الله» لحركة «كتلة الإعتدال الوطني» وحركة السفراء الخمسة والقِطَب المخفية التي ظهرت.
فالجولة التي أجراها سفراء «الخماسية» كانت كفيلة بتظهير المواقف بنحو أوضح، ولو أنّها لن تؤدي في المرحلة الراهنة الى نتيجة حاسمة. وقد يكون أعضاء «الخماسية» باتوا على اقتناع أكبر بأنّ المعادلة اللبنانية الجديدة ستخرج من رحم التحولات الكبرى الجاري صوغها.
ولا شك في أنّ الاجتماع الأكثر حدّة كان في معراب. صحيح أنّ مواقف رئيس «حزب «القوات اللبنانية» كانت متقاربة مع مواقف البطريرك الماروني، لكن الاسلوب والعرض كانا مختلفين. فالكلام في بكركي كان أكثر مرونة، أما أسلوب معراب فكان حاداً بعض الشيء، خصوصاً أمام سفراء يمتهنون اللغة الديبلوماسية. أما عند الرئيس ميشال عون فالنقاش كان عمومياً لا بل شكلياً، كما وصفته مصادر «الخماسية»، مع «توصية» عون بأن يكون برنامج الرئيس العتيد محاربة الفساد. وعند وليد جنبلاط كانت هنالك مرونة فائقة وميل للذهاب الى الحلّ وإنجازه «بما تيسر، لأنّ الوطن محكوم بالحلول التوافقية»، ولو أنّه لمح في النهاية الى أنّ الحل والربط عند المسيحيين، كونهم أصحاب الشأن المباشرين. ولفت قوله: «انتم هنا كمن يسعى لتبشير مؤمن».
أما عند جعجع فحاول السفراء فك شيفرة الرسالة الحادة، خصوصا أنّها تقاطعت بالمضمون وليس في الشكل مع رسالة بكركي والمتمسكة بتطبيق الدستور وعدم إدخال أعراف غريبة على الآلية الدستورية.
واعتاد السفراء أن يفتتح السفير السعودي الكلام كونه الأقدم زمنياً في لبنان، ويليه الفرنسي فالقطري ثم المصري وختاماً مع السفيرة الأميركية. وتركّز النقاش في شكل أساسي بين جعجع والسفير المصري. فجعجع أجرى عرضاً وافياً لكل المرحلة، مظهراً أنّ المشكلة والعرقلة تقع عن سابق تخطيط على عاتق الفريق الآخر، وأنّ انتهاك الدستور يهدف لتمزيقه نهائياً، ولذلك فالحلول تكون عند الفريق الآخر. وفيما التزم سفراء السعودية وفرنسا وقطر الصمت معظم الأحيان، أجرت السفيرة الأميركية ليزا جونسون مداخلة مقتضبة لمصلحة السفير المصري، فذكرت بأنّ عمر الفراغ تجاوز السنة ونصف سنة، وأنّ المفاوضات تستلزم تنازلات من جميع الأطراف. وردّ جعجع بما معناه بأنّ جونسون موجودة في لبنان منذ أربعة أشهر «فيما نحن نعيش ألاعيبهم منذ أربعين سنة».
وأوحى النقاش المحتدم بأنّ «الخماسية» حاولت أن تدفع عن نفسها الاتهام المبطن لجعجع بأنّها جاءت «لتمرّر مرشح حزب الله» أو خريطة بري، وفق ما قال أحد أعضاء «الخماسية».
لكن السؤال الذي دار بصوت خافت بين بعض سفراء «الخماسية»: هل من خلفية أكبر في طيات رسالة جعجع؟
قد تكون «الخماسية» عندها اصطدمت بالجدار الإقليمي الصلب، والذي لن يترك الحلول تُسرق في لحظة خاطفة.