التعرفات الطبّية ترتفع بعشوائيّة.. و”إنسانيّة” الطبيب ضابطة
كانت لافتة، اللافتة المعلقة على جدار قاعة الانتظار في إحدى العيادات الطبّية في بيروت، لما تعكسه من صورتين: اجتماعية وإنسانية، حيث كتب فيها: “المعاينة 50 دولاراً، على ألّا تكون عائقاً أمام مقابلة الطبيب”.
الطبيب الذي رفع اللافتة، لم يسقِط حقه وحق أهل المهنة في تلقّي بدل عادل من المريض المقتدر يليق بالتعب والجهد وسنوات الدرس والمتابعة والتعلم في لبنان أو خارجه مع الكلفة الباهظة التي تكبّدها للحصول على شهاداته. وكذلك فإن حق المريض الذي يكابد ضيق الحال في معاينة طبّية لم يسقط أيضاً. فبرغم الغلاء وجنون الأسعار وجد في ذلك الطبيب حقه الإنساني والأدبي في رعاية صحية ومتابعة تحترم ظروفه وكرامته، فهل من أشباه كثر لذاك الطبيب؟
الناس يعانون في كافة محاور الحياة اليومية، والهاجس السائد يختصره الجميع بعبارة “المهم الصحة”. ولكن المعاينات المتخصصة تعادل في بعض الحالات راتب شهر لموظف أو أجير يومي، دون ذكر ثمن الدواء أو كلفة الفحوصات المخبرية والتصوير الشعاعي والمغناطيسي وغيرها.
فمنذ بداية الانهيار النقدي، تحوّلت العلاقة بين الطبيب اللبناني ومرضاه في جوانبها المالية إلى أزمة إنسانية وأخلاقية ليس فيها متسلط ومستغلّ، بل سقوط للاثنين معاً في براثن التضخم النقدي وانهيار المداخيل. وتزامن ذلك مع سقوط المؤسسات الرسمية الضامنة، وضمور قدرة اشتراكات المنتسبين مثال مؤسسة الضمان، في تلبية حاجات المرض وتكلفته المرتفعة، وشبه توقف الدولة عن تسديد متوجباتها تجاه تعاونية موظفي الدولة أو الطبابة العسكرية.
في المقابل، وبعد غياب المؤسسات الضامنة، لم يعد في الساحة إلا شركات التأمين التي لا يكفي عدد حاملي بوالصها الضئيل لتشغيل جميع الأطباء، بالإضافة إلى التباين الذي لم يتوقف حول التسعيرات المعتمدة في الشركات من جهة، وما يطالب به الأطباء من جهة أخرى.
من يحدّد التعرفة؟
صحيح أن قسم أبقراط يحتم على الاطبّاء أن تكون الإنسانية أساس مهنتهم، ولكن بما أن مهنتهم تُصنّف من ضمن “المهن الحرة”، لذا لا قانون يلزمهم أو يعاقبهم إذا وضعوا تعرفات أو بدل معاينة وفق ما يناسبهم. أما النقابة، فلا تملك قوة قانون لفرض تعرفة محددة، وعند تحديدها تكون على شكل توصية وليس قراراً وتالياً هي غير ملزمة لهم.
آخر تحديث من النقابة لبدل المعاينة (الحد الأدنى للمعاينة وليس الأقصى)، كان في آذار 2023، ولكن قلة من الأطباء التزموا بها. فالبعض حدد تعرفة المعاينة بـ100 دولار، وآخرون كانوا قبل الأزمة يتقاضون، ولا يزالون، ما بين 90 و100 دولار عن المعاينة أو حتى الاستشارة.
أسعار هذه المعاينات شكلت ضغطاً على بعض المستشفيات والمستوصفات خصوصاً في مناطق الكثافة السكانية حيث تكثر نسبة الفقر. ففي أحد مستشفيات الضواحي مثلاً حُدّد بدل المعاينة لكل الاختصاصات بمليون ليرة وهي تعرفة مقبولة نسبياً مقارنة مع كلفة المعاينة الطبية لدى أطباء الاختصاص في العيادات التخصصية التابعة للمستشفيات الجامعية في بيروت التي حُدّدت بين 70 و100 دولار.
صحيح أن الازمة لم تستثن الأطباء، فهم كبقية اللبنانيين يعانون من الضائقة الاقتصادية، ولكنهم ارتضوا على أنفسهم اختيار الرسالة الإنسانية التي تحتم عليهم مراعاة الأوضاع المالية والاقتصادية الضاغطة لمرضاهم. وهذا ما تنص عليه المادة التاسعة من قانون الآداب الطبية الرقم 288 التي تشير بوضوح إلى ضرورة أخذ حالة المريض المادية بالحسبان عند تحديد أتعاب الطبيب، كذلك الظروف الخاصة بكل حالة: “عند تحديد أتعاب الطبيب يؤخذ في الاعتبار مستواه المهني وحالة المريض المادية والظروف الخاصة بكل حالة مع التشديد على أن رسالة الطبيب تفرض عليه التعامل إنسانياً مع المريض المعوز”.
ولكن هذه التوصية ليست ملزمة وفق ما يقول نقيب الأطباء في لبنان يوسف بخاش، الذي يؤكد في المقابل أن الأطبّاء عموماً يراعون أوضاع مرضاهم، خصوصاً إذا أعلم المريض طبيبه بأن وضعه المادي سيّئ. ويعتبر أن معاينة الطبيب هي جزء بسيط في الحلقة الاستشفائية، “فالمشكلة الكبرى هي في قيمة العمليات الجراحية ودخول المستشفى وفي شراء أدوية الأمراض المزمنة كالسرطان”.
بعد استقرار سعر صرف الدولار في السوق ومصرف لبنان، وتأقلم القطاع الخاص مع الوضع الاقتصادي الجديد، عادت بدلات المعاينات الى مستواها الذي كانت عليه قبل الأزمة تقريباً، وصلت في بعض العيادات الى 100 دولار، وفق بخاش. علماً بأنه في آذار 2023 أصدر مجلس نقابة الأطباء لائحة بأسعار المعاينات على النحو الآتي: بالليرة اللبنانية ما يوازي 20 دولاراً للطب العام، و25 دولاراً لطب الاختصاص. وبمعزل عن الاختصاص حددت النقابة بدل المعاينة النهارية داخل المنزل بـ50 دولاراً كحد أدنى، و100 دولار للمعاينة الليلية.
وعلى الرغم من أنه لا يمكن إلزام الطبيب بتعرفة النقابة التي تصدر توصية فقط في هذا الخصوص، فإن عدد الأطباء الذين التزموا بتعرفة النقابة ليس بقليل، وفق ما يؤكد بخاش “حتى إن البعض لا يتقاضون بدل أتعابهم، إن كان المريض غير قادر على الدفع، أو يتركون له حرية دفع “المقدور عليه”. ويضيف “حتى إن الأطباء لا يلتزمون ببدل المعاينة التي يحددها صندوق الضمان، وتبقى عملية تحديد التعرفة مرتبطة باتفاق ضمني بين الطبيب ومريضه الذي له الحرية في الاختيار. فاختياره لزيارة طبيب في مستشفى جامعي مثلاً، ستكون حتماً معاينته مرتفعة”.
وللتخفيف من “أعباء التعرفة على اللبنانيين وخصوصاً العاملين في القطاع الخاص”، لجأت النقابة الى توقيع وثيقة تفاهم بين النقابة وشركات الإدارات الطبية TPA، بحيث تتقاضى شركات التأمين ثمن البوليصة بالدولار الأميركي الفريش، ويتقاضى الطبيب بدل أتعابه بالفريش دولار. وتالياً يقول بخاش “أصبح موظف القطاع الخاص يحصل على خدمات الاستشفاء والطبابة بتغطية من شركات التأمين. ولكن المشكلة تبقى لدى موظفي الدولة والمسجلين في صندوق الضمان الاجتماعي أو في وزارة الصحة”.
نقص في الاختصاصات
ثمة مشكلة أخرى تؤثر على الجسم الطبي وهي النزف والهجرة إلى الخارج بسبب الأزمة، إذ إن أكثر من 3500 طبيب غادروا لبنان، بينهم كفاءات عالية وأصحاب اختصاصات نادرة يحتاج إليها لبنان.
في اختصاص طب قلب الأطفال مثلاً، كان في لبنان 10 أطباء، أما اليوم فلم يبق منهم الآن سوى 5 أطباء، أما في اختصاص جراحة قلب الأطفال فلا يوجد أكثر من 3 أطباء.
يؤكد بخاش أن “ثمة نقصاً فادحاً في بعض التخصّصات. فالقطاع أساساً يعاني من هذا النقص حتى قبل الأزمة، لكن المشكلة تعاظمت إبان الأزمة. فثمة اختصاصات غير موجودة في المناطق البعيدة نوعاً ما (الأطراف) ما يدفع المريض الى الانتقال من تلك المناطق الى بيروت. أبرز هذه الاختصاصات التي نواجه فيها نقصاً كبيراً وتؤثر على الاستشفاء عموماً تتجلى بتخصّصات التخدير والإنعاش والأشعة والطوارئ وجراحة الشراين والقلب لدى الأطفال. لذا تقع المسؤولية على وزارة الصحة والنقابة للعمل على رسم الخريطة الطبية بغية توزيع الأطباء وفقاً تخصّصاتهم على المناطق كافة”.
ولكن يبدو أنه مع تعافي القطاع الخاص واستقرار سعر الصرف، لوحظ أنه بدءاً من بداية عام 2023 عودة نحو 50% من الأطباء الذين هاجروا في فترة الأزمة وما تبعها من انهيار في سعر صرف الليرة، وكذلك في الفترة التي تلت انفجار مرفأ بيروت، وفق ما كشف بخاش. وأكد أن “عدداً من الأطباء يتواصلون مع النقابة والمستشفيات للعودة والعمل في لبنان على الرغم من انعدام الاستقرار الأمني في البلاد، بما يشكل إشارة إيجابية تبعث الأمل في أن مستشفى الشرق لبنان لن يموت”.