لماذا يرتفع سعر الذهب عالميّاً… وهل هو بديل مصارف لبنان
على الرغم من الانخفاض الذي شهدته أسعار الذهب في اليومين الماضيين، إلّا أنّ المؤشّرات المدعومة بتوقّعات الخبراء تفيد بأنّ هذا الانخفاض هو مجرّد “تصحيح مؤقّت”. ومن بعدها قد يعود سعر المعدن الأصفر إلى استكمال مسيرة التحليق… ربّما وصولاً إلى 2,700 دولار للأونصة الواحدة مع نهاية السنة الحالية.
يسجّل الذهب سابقة لم يشهدها الاقتصاد العالمي من قبل. إذ يرتفع سعره إلى تلك الأرقام القياسية التي فاقت 300 دولار في غضون أسابيع، وصولاً إلى ما فوق 2,400 دولار للأونصة الواحدة. على الرغم من ثبات أسعار الفائدة في الولايات المتحدة والاتّحاد الأوروبي عند 5% وما فوق.
من المعروف أنّ سعر الذهب يهبط حينما تعمد المصارف المركزية في العالم إلى رفع الفوائد. وهو ما يغري المستثمرين، فيدفعهم إلى التخلّي عن الذهب من أجل الاستثمار في نِسب الفوائد المرتفعة. لكنّ ما يحصل اليوم هو بخلاف ذلك: “فوائد مرتفعة V/S سعر ذهب مرتفع”… وتلك هي السابقة.
أسباب ارتفاع الأسعار عالميّاً؟
خبراء اقتصاديون عديدون في العالم يُرجعون هذا الارتفاع إلى 4 أسباب رئيسية، أدّت مجتمعة متقاطعة، إلى تلك الطفرة في سعر الذهب. وهي كالتالي:
1- استباق خفض سعر الفائدة في أميركا: تميل معنويّات السوق نحو توقّعات خفض أسعار الفائدة خلال شهر حزيران المقبل بسبب انحسار ضغوط الأسعار (التضخّم) في الاقتصاد الأميركي. حيث يُنتظر أن يبدأ المصرف الفدرالي الأميركي بتنظيم أوّل خفض لسعر الفائدة. ويُتوقّع أن يقوم بخفضها بواقع 25 نقطة أساس. وهو ما عزّز الطلب الاستباقي على الذهب قبل ارتفاع سعره نتيجة خفض نسب الفائدة.
2- تزايد المخاطر الجيوسياسيّة: خصوصاً نتيجة استهداف القنصلية الإيرانية في سوريا، ثمّ الردّ الإيراني على تل أبيب. ثمّ ما أعقبه من “ردّ على الردّ” قبل أيام. دفعت هذه الظروف المتوتّرة المستثمرين إلى اللجوء إلى الذهب تحسّباً لأيّ تصعيد قد يصل إلى حدود “المواجهة المباشرة” بين إسرائيل وإيران. إضافة إلى الحرب الأوكرانية وتبعاتها. وكذلك توتّر الأوضاع الجيوسياسية في مضيق تايوان بين بكين وواشنطن.
الصين أشرس المشترين
3- الشراء الشرس للمصارف المركزيّة، وخصوصاً الصينيّ: تنكبّ المصارف المركزية في العديد من دول العالم على شراء الذهب، وذلك نتيجة “عدم اليقين” الذي يحيط بالاقتصاد الأميركي. ومن بين تلك المصارف: بولندا، والهند، وقطر، ومصر، وكازاخستان، وعلى رأسهم الصين التي انكبّ مصرفها المركزي على مدى الأشهر الـ17 الفائتة على الشراء. وهو ما جعله المشتري الأكثر شراهة بين البنوك المركزية في عام 2023 بواقع 225 طنّاً. أي ما يقرب من ربع الـ1,037 طنّاً التي اشترتها جميع المصارف المركزية في العالم. في حين تشير بعض التوقّعات إلى أنّ الصين عكفت طوال تلك المدّة على التخلّص من فائض ما تملك من دولارات أميركية من أجل الذهب.
لم يتوقّف الشراء على الدولة الصينية فقط، بل تعدّاها إلى المواطنين الصينيين الذين فقدوا ثقتهم بالعقارات (ملاذهم الادّخاري تاريخياً). خصوصاً بعد تعثّر أهمّ الشركات العقارية في البلاد. ولهذا عكفوا على شراء الذهب بمختلف الأحجام، وصولاً إلى الغرام الواحد.
4- الشكوك التي تسبق الانتخابات العامّة في الاقتصادات الكبرى: يشهد العام الحالي منذ بداياته انتخابات رئاسية ونيابية حاسمة في أكثر من بلد. وعلى رأسها الانتخابات الرئاسية المرتقبة في الولايات المتحدة. وكذلك الانتخابات النيابية في بريطانيا وألمانيا والهند وبعض الدول الأوروبية التي يتهدّدها اكتساح “اليميني المتطرّف”… وهذا كلّه قد ينذر باهتزازات سياسية واقتصادية على مستوى العالم تدفع بالمستثمرين للهروب نحو “الأمان”…. أي نحو الذهب.
اللبنانيّون يركبون الموجة… بمليار دولار
أمّا في لبنان فإنّ الطلب على الذهب هو الآخر لم يتوقّف. ليس الآن فحسب وإنّما منذ بداية الأزمة، وتحديداً منذ مطلع عام 2020. إلا أنّ العام الفائت 2023 كان “الأكثر شراهة” للّبنانيّين على الذهب.
تُظهر أرقام مديرية الجمارك اللبنانية بحسبما تنقل عنها “الدولية للمعلومات“، أنّ 2023 كانت السنة “الأقلّ تصديراً والأعلى استيراداً” للذهب والمجوهرات. إذ سجّلت حركة الاستيراد نحو 1.49 مليار دولار أميركي، في حين أنّ معدّل السنوات العشر الأخيرة لم يتجاوز 1.22 مليار دولار.
بدءاً من عام 2019، استورد لبنان سبائك ذهب بقيمة 476 مليون دولار إلى أن وصل الرّقم إلى قرابة 1.2 مليار دولار في عام 2023. أمّا على صعيد التصدير، فقد سُجّل انخفاض متتابع بدأ في عام 2019 بقيمة 1.132 مليار إلى أن وصل إلى قرابة 150 مليون دولار نهاية العام الفائت، وهذا يُظهر أنّ اللبنانيين كانوا يستبدلون العملات النقدية بالذهب من أجل الادّخار في المنازل. أي أنّ اللبنانيين الذين كانوا يشترون ما معدّله نصف مليار دولار سنوياً من الذهب، ويدّخرون منه ويصدّرون معظمه بعد “الشغل” عليه… هم أنفسهم اشتروا العام الماضي بما يقارب 1.5 مليار دولار، وصدّروا منها 150 مليوناً فقط. أي احتفظوا في بيوتهم ومتاجرهم بـ1.35 مليار دولار في عام واحد.
تسليم المشتريات بالمواعيد
هذه الإحصاءات يؤكد عليها أحد مالكي شركة “بوغوص” المتخصصة في شراء وبيع الذهب والفضة. إذ يقول فرنسوا بوغوص لـ”أساس” إنّ “بيع الذهب يتصاعد منذ سنوات في لبنان. اللبنانيون لديهم ثقة اليوم بأنّ الذهب لن يهبط”.
يعزو بوغوص الأسباب إلى أنّ “الاقتصاد الأميركي غير مرتاح. وواشنطن لديها ديون، ناهيك عن الأزمات السياسية والعسكرية التي تدعمها أو تغذيها… كل هذا يترك انطباعاً بأنّ الاستحواذ على الذهب وادخاره أفضل من ادخار الدولار الأميركي. أما الانخفاضات التي يسجلها بين الحين والآخر فهي تصحيحات فقط، لكن المنحى العام هو صعودي، وهذا ما تؤكده أغلب التقارير الغربية“.
وعن حجم المشتريات داخل لبنان، يفضل بوغوص عدم الخوض بها، ويقول “لا نملك أرقاماً دقيقة عن حجم الشراء والبيع داخل لبنان، لكن ما يمكنني تأكيده هو أنّ التهافت على الذهب موجود، خصوصاً في السنتين الماضيتين، يوم كان الشراء يحتاج إلى دفع عربون وانتظار تسليمه لأسبوع وربما أكثر في بعض الحالات وذلك بحسب الطلب. أمّا اليوم فالازدحام على الشراء ما زال مستمراً لكن بوتيرة تسمح بتسليم الزبائن بمدة زمنية أقل”.
المركزيّ اللبنانيّ الشاذّ الوحيد عن القاعدة
بخلاف الجوّ العالمي المدفوع صوب الشراهة على شراء الذهب، كان مصرف لبنان غائباً عن هذا المشهد. بل على العكس فإنّ بعض “وشوشات” على خلفيّة الأزمة الاقتصادية التي تضرب لبنان منذ أربع سنوات، بدأت تتصاعد لتسأل عن سبب “تقديس” أصول مصرف لبنان من الذهب إلى هذا الحدّ. وكذلك السؤال عن سبب عدم استفادة “المركزي” من تلك الطفرة من أجل بيع جزء من ذهبه لسدّ الديون المتراكمة عليه للمصارف… أو أقلّه عن سبب عدم انخراطه بهذه اللعبة. من أجل الاستثمار بالذهب من خلال شراء المزيد من الأونصات أو السبائك. ولو بأحجام متواضعة في غضون السنة الماضية، خصوصاً أنّ جميع المؤشّرات كانت توحي بارتفاعه. مع الأخذ في الاعتبار أنّ قرار بيع الذهب أو جزء منه يحتاج إلى تصويت بالأكثرية في مجلس النواب.
من المعروف أنّ مصرف لبنان يملك قرابة 10 ملايين أونصة من الذهب (نحو 286 طنّاً) تضعه في المرتبة الـ19 عالمياً (قد يفقدها قريباً أمام دول أخرى). بينما قيمة هذه الموجودات الذهبية قد بلغت ذروة جديدة قدرها 21.7 مليار دولار في منتصف الشهر الحالي نيسان 2024. مقارنةً ﺑ20.3 مليار دولار في نهاية آذار 2024، وﺑ18.7 مليار دولار في منتصف نيسان 2023… أي بزيادة قدرها 3 مليارات دولار في سنة واحدة.
عماد الشدياق – اساس ميديا