“جمعيات لبنان”: بين النبل الإنساني وانزلاقات الفساد.. هكذا تحول بعضها إلى عصابات
تكاد لا تخلو الجريدة الرسمية التي تصدر كلّ يوم خميس من خبر إنشاء جمعية جديدة في
لبنان، إذ باتت الضيف الأسبوعي الدائم، لتنبت في كل مكان، إلى حدّ أن أصبحت عمل من لا عمل له.. فبزيادة ضخمة ومتواترة، يشهدُ لبنان أكبر طفرة في عدد الجمعيات الخيرية والاجتماعية والرياضية والثقافية وغيرها الكثير من الأنواع، ليسجّل أعلى المعدلات لناحية عدد الجمعيات في المنطقة، مقارنة مع حجم البلاد، وعدد السكان.
المُضحك المبكي يتلخّص بأنّ قانون الجمعيات الذي يرعى عملها في لبنان كان قد أبصر النور منذ 122 عامًا، أي فعليًا قبل ولادة الدولة اللبنانية، ولا تزال أحكامه تُطبّق حتّى يومنا هذا، ما فتح المجال أمام أي كان أن يشرَع بإنشاء جمعية ما، يؤلّفها بينه وبين الأصدقاء أو الأقارب، ليبدأ معها رحلة قد تؤدّي في نهاية المطاف إلى جني مئات ومئات الآلاف من الدولارات.
الأعداد الخيالية
وحسب الأرقام، فإنّ لبنان يضم في الوقت الحالي أكثر من 11 ألف جمعية موزعة على 10452 كلم2، أي ما يشير إلى وجود جمعية واحدة كل كلم، وهذا يعتبر من الأرقام القياسية لا بل الخيالية.
وخلال اتصال مع “لبنان24” أكّد الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين أن القانون الذي يرعى إنشاء الجمعيات في لبنان، والذي يعتمدُ فقط على علم وخبر يُقدّم من قبل المؤسسين إلى وزارة الداخلية فتح الباب أمام إنشاء هذا العدد من الجمعيات.
وقسّم شمس الدين عمل الجمعيات إلى 3 أنواع، إذ أشار إلى أن ما يقارب ال11500 جمعية في لبنان يعمل منها فقط 200 جمعية تقريبًا بشكل فعّال وقوي على الأرض، وحوالي 700 إلى 800 جمعية تعمل أيضا إنما ليس كالقسم الأول، أما باقي الجمعيات، حسب شمس الدين، فهي مجرد “حبر على ورق”، إذ إنّ أصحابها يحاولون الإستثمار فقط بإسم الجمعية بين العموم من دون أن يكون لديها أي حضور فعّال.
في السّياق، يحذّر مصدر قانوني خلال حديث عبر “لبنان24” من مسألة الجمعيات السرية، إذ من المستحل حسب تعبيره أن يكون هناك أكثر من 10 آلاف جمعية في لبنان تعمل ضمن الأهداف التي قامت لأجلها، وإلا لرأينا لبنان سويسرا العصر الحديث.
ويشير المصدر القانوني إلى أنّ الجمعيات السرية والتي هي مخالفة للنظام العام، باتت موجودة فعلاً، وتمكنت من التماهي بحجة جمعية خيرية أو بيئية أو اجتماعية. ويلفت المصدر هنا، إلى أنّه وعلى الرغم من أنّ القانون كفل حرية إنشاء الجمعيات، إلا أن للجهات الرقابية مهمة أساسية في هذا المجال لناحية الرقابة، وإن كانت رقابة مشدّدة، فالجمعية التي تقوم بعملها وتحقق أهدافها حسب الطلب الذي قدّمته إلى وزارة الداخلية والبلديات من المستحيل أن يتم عرقلة عملها، لأنّ الدولة من الممكن أن تعتمد عليها بشكل أساسيّ طالما أن عملها يتم ضمن الحدود القانونية.
ويلفت المصدر إلى التعميم رقم 24/إ.م/2018، والذي قامت الدولة من خلاله آنذاك بتشديد الرقابة على الجمعيات من خلال اشتراط وجود هيئة إدارية لكل جمعية، مهمتها إعداد سجّلات تتعلق بهوية الأعضاء وتاريخ دخولهم، وتدوين مقرّرات الهيئة وإبلاغها وتسجيل ما يعود للجمعية من واردات ومُفردات المُصارفات ونوعها. وإن كان هذا الأمر حسب البعض قد يهدف إلى نية “تطويقية” للعمل الديمقراطي وحرية إنشاء الجمعيات، إلا أنّه منع في مكان ما إنشاء الجمعيات السرية غير القانونية التي للدولة حق مصادرتها ومصادرة أموالها وملاحقة أعضائها.
ولكن ما هو الوضع اليوم؟
حسب معلومات “لبنان24″، فإن صعوبات عديدة حالت من دون استكمال هذه الرقابة، إذ إن وجود ما يقارب اثنين من الموظفين فقط لن يكون لديهم أبدًا المقدرة على متابعة أمور كل جمعية بالتفصيل، وهذا ما يؤكّد عليه شمس الدين، الذي أشار إلى أن الـ11 ألف جمعية تحتاج إلى فريق ضخم من الموظفين يكونون على دراية وعلم بتوجهات كل جمعية وعملها.
ويضيف أن آخر كل سنة، تقدّم الجمعيات المالية مستندات توضح من خلالها ماذا صرفت وماذا قبضت من دون أي تفاصيل أخرى، وبالتالي لن يكون باستطاعة هؤلاء أن يتابعوا أمور كافة الجمعيات.
بالتوازي، تشدّد المصادر على أن الجمعيات التي تدعمها وزارة الشؤون أقله تخضع للمراقبة والإشراف والتدقيق، وتتأكّد من وصول المبالغ المرصودة لها إلى العائلات التي هي في حاجة إلى هذه المساعدات.
المموّل المتحكم
وعلى غرار الفساد الذي عبث بكافة مفاصل البلاد، لم توفر الجمعيات غير الفعّالة حسب البعض فرصة إلا وتمكنت من تحقيق أرباحٍ من خلالها، وهذا ما يؤكّد عليه مصدر داخل إحدى البلديات الشمالية لـ”لبنان24″ الذي أشار إلى أن الجهات المولجة بعملية الرقابة تمكنت خلال الفترة الأخيرة من ضبطِ شبكة تزوير قوامها مختار، وجمعية وبعض من السوريين، الذين شكلوا مجموعة استولت على مساعدات جمعيات أخرى تُعنى بشؤون اللاجئين. ويشير المصدر إلى أنّ الأمر لم يقتصر فقط على المساعدات المالية والعينية، بل امتد ليصل إلى تزوير وثائق وفاة عبر مجموعات منظمة تهدف من خلالها إلى قتل رب العائلة السوري على الأوراق لأجل أن تحصل عائلته على معاش شهري. وشدّد المصدر على أنّ القضية الآن باتت بعهدة السلطات المختصة التي تتابع الموضوع، وهذا ما أدى إلى إلقاء القبض على مشتبه بهم من الجنسية اللبنانية والسورية.
إلى ذلك، وخوفًا من تكرار ما حصل، لا ضيم بالقول أن الرقابة اللاحقة لعمل الجمعيات التي نصّ عليها قانون 1909 بحاجة إلى تعديلات جمّة لتواكب التطور الذي بتنا نعيشه اليوم، علمًا أن المصادر تؤكّد أن ما يفوق الـ60% من الجمعيات غالبًا ما تقدّم مشاريع وهمية وتحصل على أموال طائلة لا تدفع عليها ضرائب. وفي آخر هذه الفصول، عمد مسؤول عن جمعية تربوية إلى إنشاء جمعيته خلال الاوضاع الراهنة بعد تعثّر أعمال المصارف وذلك بهدف فتح حساب بنكيّ، وحسب معلومات “لبنان24” فإنّ المصرف وبعد أن راقب عمل الجمعية والذي كان “صفرًا”، امتنع لاحقًا عن استكمال فتح الحساب، بحجة أن الجمعية وإن كانت حقيقية على الورق إنّما هي جمعية وهمية على أرض الواقع.