اقتصاد

ارتفاع جنوني في أسعار الإيجارات


في خضم التصعيد العسكري، بدأ العديد من  اللبنانيين البحث عن مساكن في مناطق آمنة، لكنهم واجهوا استغلال بعض ملاك العقارات للأوضاع الحالية، حيث شهدت أسعار الإيجارات ارتفاعاً كبيراً، كما فرض البعض شروطاً قاسية على المستأجرين، بما في ذلك دفع عدة أشهر سلفاً.

وأثارت الأسعار المبالغ فيها للإيجارات، استياء واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث عبّر مواطنون عن غضبهم من استغلال البعض الأزمات والحروب لتحقيق مكاسب مادية. يأتي ذلك في وقت يمر فيه  لبنان بظروف اقتصادية صعبة، حيث بلغت نسبة الفقر فيه 44% من مجموع السكان، وفقاً لتقرير البنك الدولي الصادر في مايو 2024 بعنوان “تقييم وضع الفقر والإنصاف في  لبنان 2024: التغلب على أزمة طال أمدها”.

ارتفاع غير مبرر

بدأت خلود وزوجها رحلة البحث عن شقة في جبل لبنان بعيداً عن معقل حزب الله في الضاحية الجنوبية، حيث يقيمان وطفلاهما، وذلك بعد اغتيال شكر. وحتى الآن، لم يتمكنا من العثور على شقة للإيجار بسبب ارتفاع الأسعار.

وتوضح خلود في حديث لموقع “الحرة” أن “الشقة غير المفروشة التي كانت تُؤجر بـ250 دولاراً شهرياً أصبحت الآن بـ 800 دولار، بينما الشقة التي كان إيجارها 500 دولار وصلت إلى 1500 دولار، هذا عدا عن عمولة المكتب”.

وتروي خلود تجربة مؤلمة حصلت معها بالقول “عندما وجدنا شقة بسعر معقول نسبياً، طلب المالك منا دفع ستة أشهر إيجار مقدماً وافقنا، ولكن بعد أن قطعنا مسافة طويلة لتسليم المبلغ، فوجئنا بأنه قد أجّرها لشخص آخر!”

وتعبّر خلود عن استيائها قائلة “بعض الملاك يستغلون وضعنا، وكأنهم يتاجرون بمعاناتنا. نحن نسعى للهروب من الموت، وهم يهدفون لزيادة أرباحهم”.

تضاعفت بدلات الإيجار منذ منتصف يوليو، كما تؤكد المستشارة القانونية للجنة الأهلية للمستأجرين، المحامية مايا جعارة، “رغم تزايد نسبة الشغور نتيجة مغادرة العديد من  اللبنانيين لوطنهم، وقد وصلت في  بيروت على سبيل المثال إلى 20% في الشقق العادية و40% في الشقق الفخمة”.

وتصف جعارة في حديث لموقع “الحرة” ارتفاع بدلات الإيجار بأنه “غير مبرر، وهو يجبر العديد من النازحين على الانتقال إلى منازل أقاربهم أو مراكز إيواء، مما يزيد من معاناتهم في ظل الظروف الصعبة التي يعيشونها”، مشددة على أن “استغلال الأزمة لتحقيق أرباح يعد غير أخلاقي”.

كما يؤكد رئيس نقابة الوسطاء والاستشاريين العقاريين، وليد موسى، وجود ارتفاع كبير في أسعار الإيجارات، مشيراً إلى أن تحديد الأسعار يتم بطريقة عشوائية.

ويوضح موسى في حديث لموقع “الحرة” أن “تحديد بدل الإيجار من حق المالك”، ولكنه في ذات الوقت يلقي باللوم على غياب الرقابة الحكومية، “ما أدى إلى انفلات الأمور في هذا القطاع”، ويشدد على ضرورة “وجود عقود إيجار بين المالك والمستأجر لتفادي الفوضى في المستقبل”.

فيما يخص الأحاديث المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي حول وصول أسعار الإيجارات إلى ألفي دولار، أوضح موسى أن “الأسعار تختلف بناء على عدة عوامل، مثل الموقع وغيره، ولا يمكن تعميم هذا الرقم بشكل مطلق”.

ما وراء ارتفاع الأسعار؟

كذلك تواجه دانا صعوبة شديدة في البحث عن مأوى جديد، وفي حديثها لموقع “الحرة”، تقول “لا أحب مغادرة منزلي، لكن حتى العاصمة  بيروت حيث أسكن ليست بأمان، وأنا أريد أن أحافظ على حياتي وحياة أفراد والديّ الطاعنين في السن”.

وتضيف “الأسعار خيالية، شقة من غرفتين، بالكاد تصلح للسكن في مناطق بعيدة عن  بيروت ومعاقل حزب الله، لا يقل إيجارها عن 500 دولار، مع ضرورة دفع ثلاثة إلى ستة أشهر سلفاً عدا عن شهر تأمين وعمولة مكتب. وأنا موظفة براتب 600 دولاراً. كيف يمكن لثلاثة أفراد أن يؤمنوا احتياجاتهم بالمبلغ المتبقي؟

“اللبنانيون لا يمكنهم تحمّل تكاليف حرب جديدة والغالبية العظمى ترفض النزوح إلى مدرسة أو مركز إيواء كما كان يجري خلال الحروب السابقة”، كما تقول دانا، مشددة “ما يحدث هو جريمة بحقنا من قبل من يريدون توريط  لبنان بالحرب ومن يستغلون الوضع لجني الأرباح”.

تعتبر عقود الإيجارات اتفاقات بين المستأجرين والمؤجرين، كما يقول الباحث في المعهد اللبناني لدراسات السوق، خالد أبو شقرا، حيث “ينص القانون على أن العقد هو شريعة المتعاقدين، ما يتيح لمالك العقار تحديد السعر الذي يراه مناسباً. وفي ظل اقتصاد حر يخضع لقواعد العرض والطلب، يؤدي ارتفاع الطلب وقلة العرض إلى زيادة الأسعار، والعكس صحيح”.

ويرجع أبو شقرا في حديث لموقع “الحرة” ارتفاع بدلات الإيجار إلى عدة عوامل متداخلة، وهي “أولاً، أدت الأوضاع الأمنية المتأججة، وخاصة في مناطق مثل الجنوب والضاحية، إلى نزوح أعداد كبيرة من السكان بحثاً عن مناطق أكثر أمناً، مما زاد الطلب على المساكن بشكل ملحوظ ودفع المؤجرين إلى رفع الأسعار استغلالاً لحالة الطوارئ.

ثانياً، توقف المصارف عن منح قروض الإسكان قلص بشكل كبير قدرة  اللبنانيين على شراء مساكن خاصة بهم، مما زاد من الاعتماد على الإيجارات ورفع الطلب على الشقق السكنية.

ثالثاً، الانهيار الاقتصادي الشامل الذي يشهده  لبنان، والتدهور الحاد في القيمة الشرائية لليرة  اللبنانية، أديا إلى اختلال كامل في آليات السوق العقارية، يضاف إلى ذلك غياب الرقابة الحكومية الفعالة، الأمر الذي ساهم في تفاقم الأزمة وجعل العديد من العائلات عاجزة عن تأمين سكن مناسب.

رابعاً، وجود شريحة من المجتمع اللبناني قادرة على دفع بدلات إيجار مرتفعة شجع بعض الملاك على رفع أسعار عقاراتهم، مستغلين حاجة الكثيرين إلى السكن”.

خارج حدود القدرة

بعض الأسر  اللبنانية تعاني من عدم القدرة على استئجار منزل بأي بدل إيجار، ومن بينهم حسن، الذي يروي معاناته قائلاً “بعد حوالي عشرة أشهر، عاد شبح النزوح ليطرق أبوابنا من جديد. كنا قد نزحنا من جنوب  لبنان، واعتقدنا أننا وجدنا ملاذاً آمناً في منزلنا في الضاحية الجنوبية، وإذ بنا نجد أنفسنا مجبرين على الرحيل مرة أخرى”.

يتابع حسن في حديث لموقع “الحرة” أنه عقب اغتيال شكر، قرر وعائلته مغادرة الضاحية. وبعدما اطلع على أسعار الإيجارات في جبل  لبنان، فوجئ بأسعار الإيجارات، ونتيجة لذلك، اختار الانتقال إلى منزل خاله في الدامور”.

ويشرح “حزمنا أمتعتنا وكأننا نغادر إلى الأبد. ملابسنا، مؤونتنا، وصورنا التي تحمل ذكريات العمر، أصبحت مجرد حمولة ثقيلة نحملها على أكتافنا.”

ويضيف “فرض علينا الانتقال من منزل إلى آخر، وتحمّل مأساة تلو الأخرى. كل ما نتمناه الآن هو عدم اندلاع حرب جديدة، لأن الثمن سيدفعه الأبرياء، ونأمل أن يأتي يوم نعود فيه إلى حياتنا الطبيعية ونعيش في سلام وأمان”.

الفئات القادرة على دفع الإيجار إما تمتلك بحسب ما يقوله أبو شقرا “قدرات مالية أو تتبع سياسة التكيف أي تحرم نفسها من بعض الاحتياجات الأساسية لتأمين بدل الإيجار، مما يثقل قدرتها الشرائية” ويشير إلى أن “عدداً كبيراً من  اللبنانيين يعتمدون على التحويلات الخارجية من أقاربهم في الخارج منذ الأزمة الاقتصادية المستمرة منذ عام 2019، والتي أدت إلى انهيار سعر صرف العملة الوطنية”.

ويشدد أبو شقرا على أنه من الصعب تحديد حجم الطلب على الشقق وعدد المؤجر منها ومتوسط الإيجار في الفترة الحالية، موضحاً أن البلديات هي الجهة المسؤولة عن توفير هذه البيانات، “إلا أن العديد منها إما معطل كلياً أو مشلول بسبب تراجع القدرات المادية، مما يعيقها عن أداء دورها بشكل فعال”.

حق.. وليس سلعة

أثارت قضية النازحين جدلاً واسعاً، حيث دعا بعض الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي إلى عدم تأجير المنازل لهم ورفع أسعار الإيجارات بشكل كبير. هؤلاء الناشطون برروا موقفهم بأن النازحين هم من مناصري حزب الله، وأن عليهم تحمل تبعات الصراعات التي يرون أن الحزب مسؤول عنها.

في المقابل، ظهرت مبادرات فردية وجماعية تسعى لتأمين مساكن للنازحين دون مقابل، في محاولة للتخفيف من معاناتهم والوقوف بجانبهم في ظل الظروف الصعبة التي يمرون بها.

الدعوات لعدم تأجير النازحين تجسدت في الواقع بتعرّض عائلة نازحة من الجنوب للطرد من منزل كانت قد استأجرته قبل يوم واحد فقط في قرية غريفة الشوفية.

هذا الحادث أثار ضجة كبيرة، ما دفع الهيئة العامة للمجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز إلى دعوة أبناء الجبل إلى التضامن الوطني واحتضان النازحين كضيوف مكرمين، مشددة خلال اجتماع عقدته أمس الخميس، على ضرورة رفض أي استغلال مادي من أصحاب الشقق والمنازل للنازحين الذين اضطرتهم الحرب إلى ترك بيوتهم.

كما دعا رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، النائب تيمور جنبلاط، جميع المالكين إلى “عدم الاستغلال المادي ومراعاة المعدلات الطبيعية لأسعار إيجارات الشقق والمنازل التي يستأجرها النازحون من أبناء الجنوب، والتعامل مع مقتضيات هذه المرحلة بمنتهى التضامن الوطني والاجتماعي والإنساني”. جاء ذلك خلال اجتماع مشترك ضمّ النواب أعضاء كتلة اللقاء الديمقراطي، ووكلاء داخلية “التقدمي”، وبعض المؤسسات المعنية، عقد لبحث التطورات الراهنة قبل أيام.

كذلك عبّرت نقابة المالكين عن رفضها “حصول أي حالات استغلال أو تجاوز في الإيجارات” مؤكدة إصرارها على بقائها ضمن المعقول، “وهذا ما يحصل في الغالبية العظمى من المساكن المعروضة للإيجار والتي لم تتجاوز المعدلات العامة للإيجار بحسب المنطقة والمساحة ونوعية البناء وسعر المتر”.

ودعت نقابة في بيان “جميع المالكين في هذه الظروف الصعبة جداً إلى التكاتف والتضامن كما دأبوا دائماً مع أهلهم النازحين من مختلف المناطق  اللبنانية“.

ويؤكد رئيس بلدية قبيع (بلدة في محافظة جبل  لبنان)، إبراهيم بو فخر الدين، أنه على الرغم من “الهجمة” على استئجار المنازل في البلدة، إلا أن “أسعار الإيجارات لا تزال مستقرة ولم تشهد أي ارتفاعات غير مبررة، وهي كما كانت في الحالات الطبيعية خلال مواسم الاصطياف”.

ويوضح بو فخر الدين في حديث لموقع “الحرة” أن “سقف أسعار الإيجار لا يتجاوز 400 دولار للشقة المفروشة و250 دولاراً للشقة غير المفروشة”، ويشير إلى أن “البلدية تعمل على تسجيل أسماء المستأجرين ومراقبة الأسعار بشكل مستمر لمنع أي استغلال، وقد تم تشكيل خلية أزمة لهذا الغرض”.

من جانبها تشدد جعارة على أن “السكن ليس سلعة، بل حق إنساني”، مشيرة إلى أن “الإيجارات في  لبنان تُعد من الأغلى عالمياً مقارنة بالحد الأدنى للأجور، حيث تتجاوز 50% من دخل المواطنين”، ومنبهة إلى أنه “من الصعب في  لبنان معاودة انخفاض الأسعار في حال ارتفعت”.

ودعت جعارة السلطتين التنفيذية والتشريعية إلى تحمل مسؤوليتهما والتدخل العاجل لوضع سياسات لضبط سوق الإيجارات وحماية حقوق المستأجرين ومنع الاستغلال، مشيرة إلى إمكانية تبني عقود إيجار موسمية لمدة ثلاثة أشهر كحل مؤقت يطمئن المالكين الذين يخشون من عدم مغادرة المستأجرين للسكن بعد انتهاء العقد.

يذكر أن إسرائيل وجماعة حزب الله، المصنفة ارهابية، تتبادلان القصف بشكل شبه يومي عبر الحدود منذ الهجوم الذي شنته حماس في 7 أكتوبر على إسرائيل، والذي أدى إلى اندلاع الحرب في قطاع غزة. ومع اغتيال شكر تعززت المخاوف من توسّع رقعة الحرب إلى  لبنان والمنطقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com