جديد المنزل “الغامض” في كفرشيما: هراء على الشاشة
يتجوّل المراسلون الصحافيون داخل منزل آل الفتى في كفرشيما، براحة مطلقة. لا مسرح تحقيقات حددته القوى الأمنية، ولا شرطي في المنزل الذي تسكنه إمرأة تسعينية، يردد الصحافيون أنها مصابة بألزهايمر، ويحاولون التثبت من ذلك ويؤكدونه بقول “يبدو” على الهواء مباشرة.
في واحد من الفيديوهات الكثيرة لواقعة منزل كفرشيما، يفتح المراسل باب غرفة الجثث، ثم يغلقه، ويردد بأن الرائحة المنبعثة كريهة جداً. بكل تلك الحرية، يتنقل بين الغرف، ويستصرح المرأة في الداخل، والجيران والمرافقين.. ولو تسنى له، لاستصرح الشجر والطيور في ردهة المنزل، سعياً إلى روايات متضاربة إضافية.
تمثل هذه الوقائع، على مدى يومين، حجم الهوة التي يقع فيها بعض المراسلين الميدانيين، كما تظهر الفجوة العميقة بين احتياجات الناس للإعلام، وتعامل مؤسسات الدولة الرسمية مع “الغرائب” والشبهات الجنائية.
وكانت السلطات اللبنانية اكتشفت خمس جثث، إحداها عائدة الى 26 تموز/يوليو الفائت، في غرفة في منزل عائلة لبنانية، دفنت فيها الجثث منذ أيام الحرب الأهلية حتى اليوم، وبقي الأمر مجهولاً، إلى أن اكتُشف في معرض تحقيق كانت تجريه الأجهزة الأمنية في عمليات سرقة اشتبه في أن منفّذها هو أحد أفراد هذه الأسرة.
قصة مثيرة
يرى الاعلام في الحكايات عن منزل آل الفتى في كفرشيما، “قصة مثيرة”. تكمن اثارتها في كونها غرائبية، وسابقة تستدعي الدهشة، كما المخاوف. وهل هناك قصة يتابعها الناس أكثر تشويقاً من 5 جثث في ردهة منزل؟
يبحث الإعلام عن خيوط الغرابة، بلا ضوابط أخلاقية ولا قانونية. يستصرح الجيران لجمع الروايات. ويقتحم عزلة إمرأة تسعينية، يدرك سلفاً أنها مريضة ولا تعرف شيئاً، وذلك بغرض تعزيز روايته. يبحث عن تفاصيل القصة في المعلومات المتضاربة والتصريحات غير المبررة، ويؤخر الرواية المنقولة على مدى يومين عن مصادر أمنية وقضائية. وهي رواية، بالنسبة إلى كثير من الاعلاميين، غير كافية، وتستدعي الشكوك. وبدلاً من اعتمادها أو البحث في المصادر الموثوقة عن رواية تتمتع بمصداقية، يذهب كثيرون الى الهراء!
من يضمن أن الجيران يمتلكون ما يكفي من المعلومات لتشكيل رواية متماسكة؟ هل يحق للصحافي أن ينقل تصريحاً جازماً نُقل عن شخص مجهول في المنطقة، يقول إن خريستو قتل شقيقه؟ وماذا عن وسائل إعلام ذكرت أن بين الجثث، جثة شقيقة خريستو، بينما تفيد المحاضر المسربة من التحقيقات الأولية أن الجثث عائدة للأب ولأربعة من أولاده؟
هذا الهراء على الشاشة، ناتج في المبدأ عن الاستعجال لحصد المشاهدات. لا رواية رسمية متماسكة تم تكوينها بعد، ولا رواية ميدانية متماسكة أيضاً، لأنها لا تتضمن سوى مشاهدات الصحافي: كاميرات مثبتة في محيط المنزل، وأسوار مرتفعة حوله، وامرأة تعيش وحدتها، وجثث متحللة في الحديقة! بمعنى آخر، “حكي قرايا” في التغطية، لا “حكي سرايا”.
الرواية الرسمية
وغياب الكلام الموثوق، عائد، في المبدأ، الى أن الدولة، لم تتعامل جدياً مع حدث من هذا النوع. لا رواية رسمية صدرت، ولا حجز على مسرح الحدث. وردت ثلاثة أخبار في الوكالة الوطنية للإعلام الرسمية، نقلاً عن مندوبيها.
وخلال 48 ساعة، نُقلت الروايات في وسائل الإعلام الأخرى، عن مصادر ثلاثة، وجاءت وسائل الاعلام على ذكرها ضمن التغطيات، من دون أن تتبنى الدولة رسمياً المعلومات الواردة فيها. أما الجثث، فبقيت 48 ساعة داخل المنزل، من دون حارس قضائي عليها، ومن دون عسكري يقف على باب المنزل على الأقل، كما لم تُنقل السيدة المسنة الى دار رعاية.
هل يمكن أن يحصل ما شاهده اللبنانيون في أي دولة أخرى في العالم؟ هل هناك دولة تقبل بأن يُعبث بمدفن لم تُحسم بعد التحقيقات حوله؟ وهل من يقبل أن يدخل صحافي وغير صحافي إلى مدفن يحتوي على جثة تنبعث منها روائح العفن؟
تقصير وخرق
في الأصل، قصّرت الدولة، على المستوى الرسمي، في حماية حقوق مواطنيها، فيما خرق الصحافيون مبدأ حماية حقوق الأفراد وخصوصيتهم، واحترام الموتى، وذلك حين نشرت صور الجثث المتحللة التي تصدرت وسائل الإعلام وبعض منصات التواصل الاجتماعي، وحين تم تصوير امرأة مسنّة من دون إذنها، واستصراحها وهي في واحدة من حالتين، إما أنها مصدومة نتيجة ما حدث، أو أنها مريضة، وهو أمر لا يصح قانوناً ولا من الناحية الاخلاقية، ولا حتى يصح في مبدأ احترام حقوق الانسان.
ما ظهر، هو الهراء بعينه، وتجاوز لحرمة العائلات وحرمة المنازل. ولعل المعلومات المنسوبة الى “عائلة الفتى” المُشهّر بها في كفرشيما، عن اتجاه العائلة لمقاضاة كل من صوّر المنزل، والبيان الصادر عنها، دليل على عمق الأزمة.
وكانت العائلة استنكرت “المُغالطات التي وردت في وسائل الإعلام البارحة لجهة أن الجثث كانت موجودة داخل مدفن صغير في جوار المنزل داخل الحديقة وذلك بناءً لوصية الوالد”. وذكرت أنه “من خلال كشف الطبيب الشرعي، تبين أن أسباب الوفاة طبيعية وبالتالي لا جريمة، فاقتضى التوضيح، كما ننتظر نتائج التحقيقات لدى القضاء المُختص”.
رين قزي – المدن