الزلزال .. من الإختراق إلى السراب الإيراني
جريمة إغتيال الأمين العام لحزب لله تجاوزت كل الخطوط الحمراء، وأسقطت قواعد الإشتباك التي سادت بعد حرب تموز ٢٠٠٦، التي أشاعت حالة من الهدوء والإستقرار على الحدود الجنوبية، وسمحت بمرور ترسيم الإتفاق البحري مع الجانب الإسرائيلي بسلاسة ديبلوماسية مشهودة.
وبغض النظر عما إذا كان عقاب المجرم الإسرائيلي سيكون بمستوى جريمته، بعد تعهدات إيران الكلامية، فإن مرحلة ما بعد إستشهاد نصرلله ستكون غير ما كانت عليه قبل رحيله، خاصة في السنوات الأخيرة.
لقد ترك الرجل بصمات قيادية راسخة في مسيرة الحزب، الذي إحتل مركز الصدارة في محور الممانعة، الذي يدور في الفلك الإيراني. وأصپح هو المثل والمثال لكثير من الفصائل والتنظيمات “الشقيقة” التي ظهرت برعايته لاحقاً، سواء الحوثيين في اليمن، أو التحالف الشيعي في العراق، فضلاً عن بعض التنظيمات المسلحة الصغيرة في سوريا، أو حتى بالنسبة لفيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني.
وساعدت مواصفات نصرلله الكاريزماتية على إنتشار نجوميته في الخارج، وعلى تعزيز مكانته في مواقع القرار في الداخل، وعلى نموّ شعبيته في بيئته الإجتماعية والسياسية، بشكل لافت، الأمر الذي ساهم في ظهور هذه الهالة المميزة حول شخصيته، والتي عززتها مواهبه القيادية، لا سيّما بلاغته في الخطابة.
قيادته المديدة للحزب مرّت بمراحل مختلفة من الصعوبات حيناً، ومن الصعود أحياناً، ولكنها كانت مثيرة للجدل في أوساط المحيطين والمقربين مرة، ومؤججة للخلافات مع خصومه مرات عدة. فيما البعض كان يعتبر أن صاحب هذه الشخصية القيادية الفذّة ظلم نفسه عندما حصر نشاطه الحزبي والسياسي في “البوتقة الإيرانية”، التي كانت أضيق من أن تستوعب إمكانياته ومواهبه في مخاطبة الجمهور العربي الواسع، الذي تفاعل مع نصرلله في مرحلة التحرير ، ولكنه ما لبث أن إبتعد عنه مع إبتعاد مسيرته عن القدس، وإنغماسها في صراعات داخلية في سوريا واليمن والعراق وفلسطين، وفق أجندات محور الممانعة الإيراني.
لسنا بوارد الخوض في تفاصيل مسيرة الشهيد الكبير،. ولكن لا بد من وقفة عند الظروف والملابسات التي أحاطت بالسنة الأخيرة، والتي تميّزت بـ” حرب الإسناد” لغزة، وأدت إلى ما نحن فيه من إرباكات وإرهاصات وضربات موجعة، بلغت ذروتها في الغارة المدمرة التي أودت بحياة “الأمين العام” وعدد من مساعديه.
منذ الأيام الأولى لحرب الإسناد، برزت ظاهرة أخذت تكبر وتتنقل من منطقة إلى أخرى، وتُمكِّن مسيَّرات العدو من “إصطياد” المقاتلين أثناء تنقلاتهم في قراهم بعيداً عن الجبهة، أو وهُم في طريقهم إلى مواقعهم. لم تقتصر الإغتيالات على العناصر في الميدان، بل تعدتها إلى رموز قيادية بارزة مثل وسام طويل وحسن رعد وغيرهما عشرات، فيما كانت هذه “الظاهرة” تخترق الضاحية، وتصطاد المناضل صالح العاروري، وتقتصر نيران الإغتيال على غرفة مكتبه بالتحديد!
طرحت هذه “الظاهرة” الكثير من علامات الشك والإرتياب، خاصة بعدما ذهب معظم الشهداء الخمسماية ضحية المسيَّرات، والمتفجرات المزروعة في الطرق التي يسلكونها. لا شك أن التكنولوجيا تلعب دوراً مهماً في تحديد دقة الهدف وإصابته بشكل مؤكد، ولكن كان ثمة كلام عن إختراق بشري على الأرض، لا بدّ من كشفه وإستئصاله.
في خضم التصعيد الصاروخي على الجبهة، إنتقل الاختراق إلى بيروت، ووقعت فاجعة تفجير “البيجر”، وأجهزة اللاسلكي، عندها ظهر “السيد”، وأعلن أن الرد سيتخذ في أضيق الدوائر الممكنة، وكان هذا المؤشر العلني الأول عن وجود الإختراق البشري في صفوف الحزب. وتوالت الضربات الكبيرة من الإغتيال الجماعي لقادة فرقة الرضوان، بعد فترة قصيرة من إغتيال القيادي فؤاد شكر، إلى إغتيال قادة وحدات في منازلهم، وصولاً إلى كارثة يوم الجمعة ٢٧ إيلول الجاري.
وإذا أضفنا خرائط المواقع العسكرية، وبنك الأهداف الذي يضم أماكن تخزين السلاح والذخيرة، المستهدفة في الغارات اليومية المكثفة في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت، يتبين لنا حجم الإختراقات على مستوى الجغرافية الميدانية في مختلف المناطق اللبنانية .
ولكن ماذا بعد هذا الزلزال الذي ضرب الحزب، وإرتداداته على الوضع اللبناني برمته؟
العدو الإسرائيلي يستغل حالات الإرباك التي تهيمن على الوضع اللبناني، سواءٌ الرسمي تحت ضغط موجة النزوح غير المسبوقة، أو الأمني بعد الضربات السريعة والموجعة التي تعرضت لها قيادات الحزب، وهو في ذروة معركته الراهنة ضد الهجمة الإسرائيلية الشرسة، للقضاء على ما تبقّى من قدرات الحزب القتالية، الأمر الذي يتطلب تحركاً لبنانياً وعربياً ودولياً، للجم تفلّت العدو الإسرائيلي من كل الضوابط القانونية والإنسانية، وتفويت الفرصة على نتنياهو الساعي لتقويض مقومات الدولة اللبنانية، وإشاعة الفوضى المدمرة في البلد.
المطلوب خطوة جريئة يتخذ قرارها الرئيسان نبيه بري، بما يمثل بالنسبة للعلاقة مع الحزب من تحالف وتفاهم، ونجيب ميقاتي بما يمثل في هرمية السلطة اللبنانية، وتقضي بإعلان وقف النار من جانب واحد، وإفساح المجال للحل الديبلوماسي، ودعوة مجلس النواب والحكومة للتصديق على هذا القرار حتى يكون خياراً وطنياً شاملاً، ويتحمل مسؤوليته كل الأطراف السياسية.
ولنتذكر كلام المرشد الروحي الإيراني قبل أسابيع قليلة: خطوة تكتيكية إلى الوراء، تكون بمثابة خطوة إلى الأمام.
إنها ساعة لإنقاذ الوطن والشعب المهجَّر من أرضه، ولا ألف مرة لتصفية الحسابات الضيقة، أو المضي في أساليب الصراعات والنكايات التافهة.
أما الرهان على الدعم الإيراني فهو أشبه بمن يلهث وراء السراب!