“السيّد” عن قرب
ليس سهلاً التآلف مع فكرة استشهاد الأمين العام لـ»حزب الله» السيّد حسن نصرالله، وهو الذي كان مالئ الدنيا وشاغل الناس، لذا فإنّ الفراغ الكبير الذي تركه لن يملأه إلّا هو، وإن كان شكل حضوره سيتبدّل.
صحيح أنّ أبا هادي كان يتمنّى الشهادة بكل جوارحه، وصحيح أنّها أفضل ختام لمسيرته، خصوصاً أنّه نالها في مواجهة العدو الإسرائيلي وعلى طريق القدس التي اتخذها بوصلةً لمعركة الإسناد وشعاراً لها… لكنّ ذلك كلّه لا يمنع أنّ غيابه هو من النوع الصاعق والصادم، ربطاً بالأبعاد التي اكتسبها حضوره طيلة فترة تولّيه مسؤوليات الأمانة العامة للحزب وتصدّيه لتحياتها.
غالب الظنّ، أنّ خصومه في السياسة سيفتقدونه أيضاً وليس فقط مُحبّوه، فهو أعطى للخصومة السياسية قيمة مضافة ورفع مستوى التحدّي بالمعنى الإيجابي، بعدما أصبح مِحوَر الإستقطاب في المعادلات الداخلية.
أمّا على صعيد الإقليم، فتحوّل السيّد مع حزبه شريكاً استراتيجياً في رسم توازنات المنطقة واتجاهاتها، بعدما فاضَ تأثيره عن حدود لبنان، فصار نداً لدول وازنة في الإقليم وحتى خارجه.
لكنّ السيّد القوي، الرمز، صاحب الشعبية الجارفة والعابرة للحدود، وصانع الانتصارات في مواجهة العدو الاسرائيلي والإرهاب التكفيري… له أيضاً وجهٌ آخر لا يحوط به إلّا من تسنّى له أن يعرفه من قرب. وقد شاءت الأقدار المهنية أن ألتقيه مرّات عدة في إطار مقابلات تلفزيونية عبر قناة “المنار”، ما أعطاني فرصة أن أطلّ على الأبعاد الأخرى في شخصيّته.
أول ما تكتشفه هو أنّ الرجل الذي تسلّق قمم الجماهيرية والإنجازات والأدوار والقيادة، إنّما ينبسط أمامك سهلاً من التواضع العفوي، غير المصطنع، الذي تتلمّسه في أصغر الجزئيات، من الاستقبال اللطيف والدافئ الى دماثة الأخلاق في محاكاة كل التفاصيل.
كان يتصرّف بتلقائية تامة، تاركاً سجيّته على طبيعتها الأولى من دون أي تكلّف أو ادّعاء، جامعاً بين الوقار والبساطة في آنٍ واحد.
كان يبادر إلى احتواء شعور الطرف الآخر بالتهيّب، فينبري إلى إذابة الحواجز النفسية بابتسامة تارة وبدردشة “خارج الصندوق” طَوراً، حتى يكاد يتهيّأ لك بعد دقائق قليلة أنّ هناك نوعاً من “وحدة الحال” بينك وبينه، خصوصاً عندما يفاجئك بوضع كفّه في كفّك، على نحو عفوي، حين تسطع قفشة لمّاحة في سياق الحديث، فتُسارع إلى استخدام مكابحك وتذكير نفسك بأنّك في حضرة السيّد ولا يجوز أن تتجاوز الحدود وتبالغ في استثمار تهذيبه ورحابة صدره.
وحين ينتهي اللقاء التلفزيوني، لم يكن يتردّد في تلبية طلب أعضاء فريق العمل بالتقاط الصور معه فرداً فرداً، من غير تأفّف أو تذمّر، وحتى عندما تمنّى عليه أحدهم أن يهديه خاتمه، لم يتأخّر في إرساله إليه.
وعندما قلت له إنّ هناك لائحة طويلة من الأشخاص الذين بعثوا بالسلام إليه فور معرفتهم بأمر المقابلة معه، حرص على أن أسلّم لائحة الأسماء إلى أحد مساعديه ليطّلع عليها في وقتٍ لاحق، طالباً مني إيصال سلامه إلى كل من أرسَل له تحية.
والسيّد المنشغل بالقضايا الكبرى والملفات المعقّدة كان ملمّاً أيضاً في متطلّبات الإطلالة الأنسب على الهواء، بفعل عين ثاقبة و”مرهفة”، فكان يعطي رأيه في الإضاءة واللمسات الإخراجية وغيرها حتى تظهر الحلقة ومضامينها بأفضل حلّة ممكنة.
باختصار، إنّه الشخصية الآسرة، حتى لو اختلفت معها. هي الكاريزما التي شكّلت جزءاً من الأسلحة الدقيقة للحزب في معركة صنع الوعي ونشر ثقافة المقاومة.
عماد مرمل -الجمهورية