اسرائيل تهدد الصحافيين اللبنانيين وتغتالهم عن قصد
اسرائيل تهدد الصحافيين اللبنانيين وتغتالهم عن قصد
أذكر أنه استوقفتني، خلال عملي الصحافي في العام 2003، بينما كنت أُكمل تخصصي الجامعي في القانون العام والقوانين الدولية، وتحديدًا القانون الإنساني، عبارة قالها آنذاك البروفسور د. شفيق المصري: “إن استهداف الصحافيين في أوقات الحروب والنزاعات المسلحة يُعدّ جريمة حرب تمامًا كاستهداف المسعفين وعمّال الإغاثة في تلك الأوقات”.
يومها، شعرت أن لديَّ درعًا واقيًا خفيًا يحميني أينما كنت… كيف لا، وأسرة المجتمع الدولي وافقت على اتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكولاتها الإضافية، وبخاصة المادة 79 من البروتوكول الإضافي الملحق باتفاقية جنيف 1949 المتعلقة بحماية المدنيين خلال النزاعات المسلحة، والتي نصّت على أن الصحافيين المدنيين الذين يؤدون مهماتهم في مناطق النزاعات المسلحة يجب احترامهم ومعاملتهم كمدنيين، وحمايتهم من كل شكل من أشكال الهجوم المتعمد.
في العام 1949، بُعيد الحرب العالمية الثانية التي أودت بحياة عشرات الملايين من الأشخاص حول العالم، وإنشاء الأمم المتحدة، أراد المجتمع الدولي أن يحد من وحشية الحرب وتبعاتها على المدنيين، ممن لا يشاركون في القتال، بل وحتى الذين لم يعودوا قادرين على القتال كأسرى الحروب والجنود المصابين…
على الأقل، هذا ما كنت أظنه. لكن على ما يبدو، تبيّن لي لاحقًا من خلال تغطيتي للنزاعات المسلحة والحروب، أن تلك المعاهدات الدولية وُضِعَت لتنظيم القتل والتغاضي عن المحاسبة إذا ما كان من يقوم بالفعل دول وكيانات تعتبر نفسها فوق المساءلة والمحاسبة، أمثال أميركا وبريطانيا وفرنسا و”طفلتهم المدللة” إسرائيل.
هذه الاتفاقيات وملحقاتها، والتي تُعتبر جميعها جزءًا لا يتجزّأ من القانون الدولي الإنساني، هي بمثابة إلزام للدول الضعيفة فقط، ومناسبة للتشدق بها دوليًا عندما يلبس الرجل الأبيض قناع الإنسانية أمام عدسات الكاميرا… فلم توقف استنكارات الأمين العام للأمم المتحدة المتكررة كأسطوانة مشروخة، ولا تنديد تيم داوسون، نائب الأمين العام للاتحاد الدولي للصحافيين، ولا شجب بعض المسؤولين اللبنانيين، ميليشيا كيان الاحتلال باستهداف الصحافيين عمدًا، وهو ما يعد انتهاكًا للقانون الدولي وجريمة حرب.
في غزة، تجاوز عدد الشهداء الصحافيين الذين اغتالهم كيان الاحتلال الإسرائيلي 183 صحافيًا وعاملًا في مجال التغطية الإعلامية.
أما في لبنان، فلدينا عشرات الشهداء من الإعلاميين الذين اغتالهم نفس العدو، ويستمر في تهديد زملاء لنا في الميدان.
دعوني أذكّركم بمحمد بقاعي، المراسل اللبناني المستقل، الذي أصيب برصاص الاحتلال الإسرائيلي خلال الأسبوع الثاني من العدوان الإسرائيلي على لبنان في تشرين الاول 2023… كان بالقرب من الحدود مع فلسطين المحتلة والخط الأزرق، ولكن داخل الأراضي اللبنانية.
عند استهداف محمد، قام الاحتلال الإسرائيلي بمنع أي شخص من الاقتراب منه وكان يطوّق مكانه بالرصاص لضمان عدم إنقاذه، فما كان منه إلا أن قام، وبكل مهنية حتى اللحظة الأخيرة من حياته، بتصوير فيديو عبر هاتفه وإرساله إلى شقيقه أحمد، يخبره فيه أنه يشعر أنه سيموت قريبًا، ولكن “دع العالم يرى ما يفعله الاحتلال بنا”.
نزف محمد بقاعي حتى الموت في ذلك اليوم. وبحسب المسعفين الذين تسلّموا جثته لاحقًا، لو تم إنقاذه قبل 15 دقيقة، لكان قد نجا. للتذكير، منعت قوات الاحتلال الإسرائيلي أيضًا قوات اليونيفيل من الاقتراب من المنطقة التي كان فيها لأجله.
محمد البقاعي لم يكن أول شهداء الصحافة في لبنان منذ بدء العدوان الإسرائيلي على وطني في 8 تشرين الاول 2023، بل سبقه إلى الشهادة الزميل والصديق العزيز عصام عبدالله، مصوّر الفيديو لدى رويترز، الذي كان يقف في مكان مكشوف داخل الأراضي اللبنانية السيادية مع عدة صحافيين لبنانيين وأجانب، يعملون مع وسائل إعلام عالمية. لكن ذلك لم يشفع لهم عندما عاجلتهم دبابة إسرائيلية في 13 تشرين الاول 2023 بقذيفتين أودت بحياة عصام، وأدت لبتر ساق الزميلة كريستينا عاصي، المصورة في وكالة فرانس برس، وجرح عدد آخر من الصحافيين، منهم إيلي برخيا وكارمن جوخدار.
تلك كانت أولى جرائم الحرب التي ارتكبها كيان الاحتلال المارق ضد الصحافيين في لبنان خلال هذا العدوان، ولم يتوقف حتى لحظة كتابة هذه السطور عن الإمعان في قتل وتهديد الصحافيين في لبنان، في محاولة لطمس الحقيقة. وتوالى حمام الدم، فاستشهد زملاء من قناة الميادين، وخسر زملاء آخرون منازلهم وعائلاتهم في القصف الصهيوني الهمجي الذي طال معظم الأراضي اللبنانية.
في المقابل، اختار المجتمع الدولي أن يدير ظهره دون التحرك لمعاقبة من يخرق القوانين الدولية، مكتفيًا بإصدار بيانات الشجب والاستنكار بين الفينة والأخرى. فما النتيجة؟
استمرار مسلسل إجرام هذا الكيان وصل مؤخرًا إلى حد استهداف 18 صحافيًا من 7 مؤسسات إعلامية وهم نيام في بيت للضيافة في منطقة حاصبيا الشهر الماضي، مما أدى لاستشهاد الزملاء وسام قاسم من قناة المنار، وغسان نجار، ومحمد رضا من قناة الميادين. هذه كانت جريمة عن سابق تصور وتصميم وبعد عملية رصد.
واليوم، يهدد أفيخاي أدرعي الناطق باسم ميليشيا الاحتلال للزملاء علي مرتضى من قناة الميادين، الذي يغطي جبهة جنوب لبنان حاليًا. فبعد خسارته لعدد من زملائه على يد العدو الصهيوني، تلقى علي خبر تهديده بابتسامة وصلابة، وخلع الدرع الواقي أمام عدسة الكاميرا تعبيرًا عن استنكاره وتحديه لهذا الفجور والإجرام والإمعان في خرق القانون الدولي… والزميلة آمال خليل من جريدة الأخبار التي تغطي أحوال الناس وتنقل ما يحدث على طول الشريط الحدودي. آمال تلقت رسالة نصية على هاتفها من رقم يحمل رمز كيان الاحتلال، مفادها أنهم يراقبون تحركاتها، وتنتهي بـ “نحن نعرف مكانك وسنصل إليك عندما يحين الوقت… أقترح عليك الهروب إلى قطر أو في مكان آخر إذا كنت تريدين الحفاظ على الاتصال بين رأسك وكتفيك.” وأحدث تهديد لزميل صحافي كان تهديد أفيخاي أدرعي وأدي كوهين وحسابات إسرائيلية أخرى علنًا عبر منصة التواصل الاجتماعي “اكس” منذ يومين للزميل حسين مرتضى، المراسل الحربي من مركز سونار الإعلامي، والذي كان قد غطى حرب سوريا لفترة طويلة من الزمن. ولم نسمع استنكارًا، ولا شجبًا، ولا تحركًا من الخارج لوقف هذه المهزلة وحماية الصحافيين.
إذا توقفنا عن التغطية الإخبارية، فسينتهي الأمر بكم إلى الغرق في عفن بروباغندا ميليشيا الاحتلال وأبواقها في المنطقة والعالم التي تتحفنا بالأخبار المغلوطة التي تبرر جرائم هذا الكيان. وإن لم نتوقف عن التغطية، فمصيرنا في فضح ممارسات هذا الكيان المارق الإجرامية يتأرجح بين الحياة والموت في سبيل أن تحصلوا على الخبر اليقين.
نحن لا نرمي بأنفسنا إلى التهلكة. فنحن نعمل وفق المعايير المهنية والقوانين الإنسانية الدولية التي تُفسح لنا المجال في التغطية دون أن يتعرض إلينا أحد.
لكننا كصحافيين يغطون أخطر منطقة نزاع في العالم، نواجه عدوًا يستلذ باستهداف كل من يحميه القانون الدولي، غير آبه بمحاسبة أو مساءلة، ولا نستطيع التوقف لأننا كلنا أمل أن هذا العدو سيدفع كامل ثمن جرائمه يومًا ما.
“ليبانون ديبايت” – ليلى حاطوم