ماليّة الدولة: كيف حرمت شعبها من 600 مليون دولار
قبل ساعات من لقائه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، يوم أمس، للبحث في واقع إيرادات الخزينة، كان وزير الماليّة يوسف الخليل يصارح اللبنانيين للمرّة الأولى بواقع الماليّة العامّة للدولة اللبنانيّة، خلال الأشهر المنصرمة من العام الفائت. بعبارة واحد، أكّد الخليل ما تناولته “المدن” طوال الأشهر التي سبقت توسّع الحرب، بخصوص طبيعة السياسة التقشّفية الحادّة التي تتبعها الحكومة اللبنانيّة، والتي نتج عنها تراكم واحتجاز الإيرادات العامّة المحقّقة في مصرف لبنان.
هذه السياسة الماليّة السامّة بالذات، هي ما أسهم في امتناع الحكومة عن تمويل خطّة الطوارئ الاستباقيّة، التي كان يفترض أن تتعامل مع الحاجات الراهنة التي تفرضها الحرب. وتصريحات الخليل، التي حاولت استعراض الفائض الذي حققته الماليّة العامّة للدولة، كان يفترض أن تكون مضبطة اتهام للحكومة المقصّرة خلال هذه الحرب، لا العكس.
أرقام 2024: فائض بقيمة 600 مليون دولار
ما تقوله أرقام يوسف الخليل، هو أنّ الماليّة العامّة للدولة سجّلت لغاية أواخر تشرين الأوّل الماضي نحو 3.3 مليار دولار من الإيردات، 10% منها بالدولار النقدي، أي “الفريش”. في المقابل، لم تنفق الماليّة العامّة من أصل هذا المبلغ أكثر من 2.7 مليار دولار، 45% منها ذهبت لتمويل الرواتب والأجور. بهذا المعنى، وخلال 10 أشهر، حققت الدولة 600 مليون دولار من الإيردات التي لم يتم استعمالها أو إنفاقها، بل تكدّست في حسابات الدولة لدى المصرف المركزي. هذه الأموال المُحتجزة، والتي تراكمت بمعدّل 60 مليون دولار شهريًا، هي ما يفخر به يوسف الخليل اليوم كفوائض ماليّة حققتها الدولة.
من الناحية العمليّة، يمكن القول إنّ الإيردات العامّة المُحقّقة بالفعل خلال الأشهر الـ 10 الأولى من السنة، تقترب من تحقيق حجم الإيرادات التي توقّعتها موازنة العام 2024 للعام بأسره، أي خلال 12 شهر، والتي قُدّرت عند حدود الـ 3.4 مليار دولار. وبهذا الشكل، يمكن القول إن تصريحات وزير الماليّة تؤكّد بما لا يقبل الشك بأنّ تقديرات موازنة العام 2024 للإيرادات العامّة كانت شديدة التواضع، بل وغير دقيقة أبدًا، مقارنة بالإيرادات الحقيقيّة (والأكبر حجمًا) التي جرى تحصيلها خلال العام الراهن. وعلى هذا الأساس، تم تحديد سقوف منخفضة للإنفاق العام، على أساس التقديرات المتواضعة والمنخفضة –وغير الدقيقة- للإيرادات، وهو ما أسهم في تراكم الأموال العامّة في مصرف لبنان على هذا النحو، بدل إنفاقها.
نتيجة التقاعس في تمويل الإنفاق العام
في جميع الحالات، وبينما كانت الدولة تتبع هذه السياسة التقشّفية، التي تقاعست عن استعمال الإيردات المحققة بالفعل، كانت الحكومة تتقاعس –في الوقت نفسه- عن تأمين التمويل المطلوب لخطّة الطوارئ الاستباقيّة (للحرب)، والتي تم إعدادها منذ أواخر العام الماضي. وبطبيعة الحال، كانت الحجّة الدائمة –للتقاعس عن تمويل الخطّة- عدم توفّر الإمكانات الماليّة، وهو ما ثبُت عدم صحّته، بحسب أرقام الوزير نفسه. مع الإشارة إلى أنّ الحكومة أعدّت هذه الخطّة منذ نحو سنة، للتحضير لاحتمالات توسّع الحرب، التي توسّعت بالفعل في شهر أيلول، من دون أن تدخل الخطّة حيّز التنفيذ.
هكذا، تُركت مراكز الإيواء من دون توفير أبسط الحاجات البديهيّة في بدايات الحرب، مثل الحصص الغذائيّة والمياه وفرش النوم. وتُرك تأمين هذه الحاجات للمبادرات الفرديّة، أو المساعدات الخارجيّة، ودائمًا بحجّة “الإمكانات المحدودة”. وبعكس ما نصّت عليه الخطّة، لم يكن التمويل متوفّرًا لضمان استمراريّة عمل المرافق الحسّاسة خلال الحرب، كما لم يتوفّر لتمويل الحاجات المرتبطة بانطلاقة العام الدراسي (تم وضع خطة تربوية على أساس استقدام المساعدات الخارجيّة لتطبيقها). وحتّى هذه اللحظة، مازال تأمين بعض هذه الحاجات الداهمة، على حساب المال العام، محل أخذ ورد، رغم تأكيد وزير الماليّة على توفّر هذه الفوائض الماليّة!
في خلاصة الأمر، حرمت الحكومة شعبها من 600 مليون دولار، في ظل أسوأ أزمة نزوح يمكن أن تنتج عن حرب بهذا الحجم. وقدّمت، لتبرير هذا التقاعس الفادح، حججًا لا تستقيم وفق أرقام وزارة ماليّتها. وساند الحكومة في تنفيذ هذه السياسة المجلس النيابي، الذي ناقش وأقرّ موازنة العام الراهن، بأقل قدر ممكن من التدقيق في أرقامها، وفي الفرضيّات التي تم على أساسها تقدير الإيرادات. وكما هو واضح، كان لهذه السياسة السامّة أهدافها، والمصالح التي تخدمها، في مكانٍ آخر. في مصرف لبنان.
الغوص في أرقام مصرف لبنان
في أرقام مصرف لبنان، ما يفسّر هذه السياسة الماليّة، التي ظهرت نتائجها في تصريح يوسف الخليل. الزيادة التي تراكمت في حساب الدولة لدى المصرف المركزي، بلغت حدود الـ 1.66 مليار دولار بين منتصف شهر شباط ونهاية شهر أيلول، بالتوازي مع زيادة قدرها 1.19 مليار دولار في احتياطات المصرف بالعملات الأجنبيّة. ثم ما لبث أن تراجع حجم حسابات الدولة لدى المصرف بقيمة 108.55 مليون دولار خلال شهر تشرين الأوّل الماضي، مدفوعًا بالحاجات الداهمة التي استجدّت خلال الحرب. مع الإشارة إلى أنّ هذه الأرقام لم تأخذ بعين الاعتبار التغيّرات التي طرأت قبل منتصف شهر شباط الماضي، أي قبل اعتماد سعر صرف واقعي لإعداد الميزانيّة.
هكذا، يصبح من الواضح أنّ ثمّة سياسة نقديّة تكاملت مع السياسة الماليّة التقشّفية. وهذه السياسة النقديّة هدفت أولًا لضبط حجم السيولة المتداولة بالليرة، عبر امتصاص الليرات التي تجمعها الدولة من الرسوم والضرائب، ومن ثم التقشّف في إنفاقها، بل ومراكمتها في مصرف لبنان. كما هدفت ثانيًا لمراكمة المزيد من الاحتياطات بالعملات الأجنبيّة، عبر شراء كميّات من العملة الصعبة من السوق الموازية، من دون الاضطرار لطبع النقد بالليرة، طالما أنّ المصرف المركزي يمتص في المقابل السيولة بالليرة عبر هذه السياسة التقشفيّة. بهذا الشكل، خدمت السياسة الماليّة أولويّات مصرف لبنان، إنما على حساب الإنفاق العام طوال العام 2024.