قصّة المصارف مع رياض سلامة: نكران الجميل والغدر
خلال الأيّام الماضية، ظهر تحوّل كبير في خطاب جمعيّة المصارف، تجاه حليفها التاريخي، وشريكها في هندسة القطاع المالي بالشكل الذي نعرفه، الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة. في أيّام قليلة، باتت المصارف تتحدّث في مذكرة ربط النزاع عن الممارسات الاحتياليّة في حقبة سلامة، الذي كان “يصطنع ميزانيّة وهميّة”، ويوزّع “للدولة ربحًا في حين أنّه كان خاسرًا بعجز ضخم”. وباتت المصارف تذكّر في تقاريرها بكذب سلامة، الذي طمأنها تجاه أموالها المودعة لديه، من دون أن “يحترم تعهّداته”. سلامة، هو الذي تآمر لتبديد “أموال المصارف والمودعين بعد أن أخفى ما أخفاه في الميزانيّات والأرقام”.
الهدف من التحوّل في الخطاب
هكذا، باتت المصارف ترسم صورة جديدة لسلامة. صورة شيطانيّة تضعه في موقع الشيطان الأكبر، الذي هندس العمليّة الاحتياليّة وحده ببراعة، وخدع المصارف بميزانيّاته المصطنعة. المصارف ومجالس إدارتها وأصحابها هنا هي الضحيّة، لا الشريك والحليف والمستفيد!
بطبيعة الحال، لدى المصارف أهدافها من كل هذا التحوّل في الخطاب تجاه رياض سلامة. إذ أنّ تصوير إدارات وأصحاب المصارف كضحيّة لمؤامرة سلامة، هو خطوة ضروريّة لمواجهة أي مسعى للمس بملكيّة أصحاب المصارف لمصارفهم، في إطار مشروع قانون إعادة هيكلة القطاع. وهي ضرورة لتحميل الشعب اللبناني –أي الدولة والمال العام- كتلة الخسائر المصرفيّة، عبر تحويل هذه الخسائر إلى ديون عامّة على الدولة.
طبعًا، تدرك جمعيّة المصارف أنّ الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة بات في خبر كان، من الناحية المهنيّة على الأقل. فأكثر ما يطمح له الرجل اليوم هو أن يظل مختبئًا في بقعة آمنة، بعيدًا عن ملاحقات المحاكم ومذكرات التوقيف الدوليّة، وبمنأى عن أي سجال أو اهتمام إعلامي. هو حيٌ في عداد المغيّبين، وهو لا يملك اليوم جيوش الخبراء المتنطّحين للدفاع عن حقبته، كما كان الحال منذ أشهر، قبل أن يغادر الحاكميّة. ولأن “الميّت ما بيعيّط” كما يُقال في لبنان، تستسهل المصارف إعادة صياغة السرديّة على هذا النحو.
لهذا السبب، ولأنّ المصارف تملك أهدافها من تسويق السرديّة الجديدة، ولأن هذه السرديّة ستترك أثرها على بعض المعارك الماليّة المقبلة، بات هناك ضرورة لتفنيد مزاعم جمعيّة المصارف، تجاه حليفها وشريكها السابق، ولو كنّا تاريخيًا –ومازلنا- من أشد الناقدين لسياسات سلامة النقديّة والمصرفيّة. وتفنيد هذه المزاعم لا تحمل طبعًا دفاعًا عن سلامة، الذي ارتكب ما ارتكبه في الماضي، بل يذهب إلى تحميل المصارف حصّتها من المسؤوليّة، في الارتكابات المُشار إليها.
الهراء في السرديّة المصرفيّة
السرديّة المصرفيّة، كما ترد في تقرير الجمعيّة الرسمي، تقول أنّ المصارف كانت مخدوعة، بعدما أبلغها سلامة عام 2014 أنّه يعيد توظيف أموالها لدى مصارف تجاريّة ومصارف مركزيّة في الخارج، وهو لا يستعمل هذه الأموال بالفعل، بل يلعب دور الوسيط في تلقّي الأموال وتوظيفها. ثم كرّر سلامة تطميناته عام 2019، مذكرًا المصارف بمضمون قانون النقد والتسليف، الذي يمنع استعمال الدولة لهذه الودائع.
يحمل هذا الكلام قدرًا لا يمكن احتماله من التضليل، والاستخفاف بعقل القارئ. إذ أنّ أصحاب المصارف كان يحصّلون بين عامي 2016 و2019 أرباحاً تصل نسبتها إلى أكثر من 30%، مقابل توظيف دولارات المودعين لدى مصرف لبنان. وكانت الأرباح تصب طبعًا في خانة الأموال الخاصّة بأصحاب المصارف، وهو ما مثّل الحافز الأساسي الذي دفع مجالس إدارات المصارف للمقامرة بأموال المودعين.
ألم تسأل مجالس الإدارة نفسها كيف يسدد مصرف لبنان ربحًا يصل إلى 30%، مقابل توظيف هذه الدولارات لديه، إذا كان المصرف يكتفي بتوظيف هذه الأموال لدى المصارف المراسلة أو المصارف المركزيّة الأجنبيّة؟ ما هو منطق هذه العمليّة، التي يكتفي فيها مصرف لبنان بدور الوسيط، والتي تحقق هذا الربح الخيالي، إذا كانت المصارف الأجنبيّة تدفع نسب شبه معدومة من الفائدة مقابل توظيفات المصرف المركزي لديها؟ هل تصوّرت المصارف أن مصرف لبنان كان يتكبّد هذه الخسارة الهائلة، لمجرّد توظيف الأموال في الخارج، من دون تحقيق أي ربح عليها؟
بصورة أوضح: كان من المفترض أن يدرك أي مُلمّ بالشأن المالي أنّه لا يوجد أي منطق في أن يسدّد مصرف لبنان للمصارف أرباحاً فوريّة بنسبة 30%، لمجرّد إيداع الأموال من دون عائد في الخارج. هذا هراء لا يحمل أي منطق مالي أو اقتصادي، ولا يحقق أي هدف، حتّى بالنسبة إلى سياسة نقديّة سيّئة (وفاسدة) مثل سياسة رياض سلامة. وكان من المفترض أن يدرك ذلك مدراء المصارف، التي يقوم عملها أساسًا على تلقّي الودائع ومنح التسليفات، وإدارة الفارق بين فوائد الودائع وفوائد القروض. هذا اختصاص أي مصرفي، فكيف لم يلحظوا ذلك؟
كانت المصارف شريكة: تخطّط وتعرف وتستفيد
كان من الطبيعي أن تدرك المصارف طبعًا أن ما يجري مسألة أبسط بكثير: كان سلامة يموّل التحويلات إلى الخارج، التي استفاد منها أصحاب المصارف وكبار المودعين، من دولارات المودعين التي يتم إيداعها لديه. وكان يفعل ذلك تحت ستار تثبيت سعر الصرف، الذي يبيع بموجبه الدولارات بالسعر الرسمي، لهذه الفئات. وكان القيّمون على القطاع المصرفي، مع حلقة من كبار النافذين المستفيدين من الهندسات الماليّة، يقومون بتحويل الأرباح المتأتية من الفوائد الخياليّة، من الليرة إلى الدولار، بالتواطؤ والتآمر مع سلامة نفسه.
هذا هو “البونزي سكيم”، أو المخطط الاحتيالي، الذي تحدّث عنه البنك الدولي والأمين العام للأمم المتحدة والرئيس الفرنسي. ولم يكن أي مصرفي –من المنخرطين في العمليّات مع مصرف لبنان- يحتاج إلى عبقريّة خاصّة ليكتشف ذلك. كان يكفي أن يراجع هؤلاء أرقام مصرف لبنان، ليكتشفوا اتساع الفجوة ما بين قيمة الاحتياطات الموجودة لدى المصرف، وحجم الإلتزامات المتوجّبة عليه. وكانت هذه الفجوة دليلًا على أنّ المصرف لا يقوم بتجميع الدولارات لإيداعها في الخارج (ما الغاية من ذلك أصلًا؟!)، بل كان يجمّع الدولارات ويبدّدها بشكل منتظم.
كان واجب المصارف أن تدرس مخاطر توظيفاتها، ومنها تلك المودعة في مصرف لبنان. وكان دورها الأوّل أن تدرس ميزانيّات المصرف المركزي، تمامًا كما تدرس ميزانيّة أي مقترض يطلب الأموال منها. ولو كانت مجالس الإدارة كسولة بما فيه الكفاية لعدم دراسة أرقام المصرف، الذي ابتلع أموالها، كان من الممكن أن يكتشفوا ذلك بمجرّد قراءة عشرات التقارير التي تحذّر من فجوة خسائر مصرف لبنان، ومنها تلك التي نشرتها مؤسسات التصنيف الإئتماني (التي تعرفها المصارف جيّدًا وتتابع تقاريرها).
لم تغض المصارف النظر عن هذه المخاطر لأنها لم تكن تعلم. من المستحيل أن لا تعلم.
لقد غضّت المصارف النظر لأنها كانت –بمالكيها وإداراتها وبعض كبار النافذين فيها- مستفيدة بشكل مباشر من هذا النموذج. لقد كانت شريكًا في الأرباح –أو عائدات العمليّة الاحتياليّة- المحققة على حساب المودعين. ولقد كانت شريكًا بالتخطيط أيضًا، لكون المصارف كانت تطلب بشكل خطّي توسيع عمليّات الهندسات الماليّة بشكل متكرّر. لقد كانوا جزءًا من الجريمة، وطرفًا أساسيًا في العصابة الاحتياليّة، لا ضحايا.
وهذه أهم خلاصة: لم تكن المصارف ضحيّة.
المطلوب اليوم: إعادة هيكلة قسريّة
ما المطلوب إذًا، بعد تفنيد هذه السرديّة المصرفيّة السطحيّة؟ لا يمكن لمجالس الإدارة، التي شاركت سلامة في المخطط الاحتيالي، أن تكون جزءًا من عمليّة عملية إعادة هيكلة القطاع. ولا يمكن لهؤلاء أن يديروا قطاع مصرفي، إذا أردنا قطاعاً صحّياً وشفافاً ونظيفاً. ولا يمكن لكبار المساهمين في القطاع أن يحتفظوا بملكيّة مصارفهم، بعدما حملوا المودع خسارة غير مبرّرة، إلا في قاموس عمليّات الاحتيال المنظّم. إن ما ترفضه المصارف اليوم، من خلال تقاريرها وتحرّكاتها القضائيّة، هو ألف باء العدالة، في إدارة الإفلاسات المصرفيّة.
بهذا الشكل، يصبح من الغريب صمت كبار القائمين على الملف المالي، إزاء كل ما يجري من تمرّد يقوم به القطاع المصرفي، في وجه عمليّة إعادة الهيكلة. ليست المشكلة في أنّهم يكذبون، لقد فعلوا ذلك كثيرًا في الماضي. المشكلة هي أنّهم خارجون عن القانون، وبقرار رسمي ضمني.
ليست المشكلة في أنّهم يكتبون التقارير، فهذا حقّهم في التعبير عن الرأي، الذي يشمل حتّى المُذنب والمُفلس والمُحتال و”المصرفي الزومبي”. المشكلة أنّهم ما زالوا يملكون مصارفهم ويديرونها، ويديرون توزيع الخسائر.
المدن