قراءة وعِبَر في الكلام السياسي لقاسم
غلب على المشهد السياسي في الأيام التي تلت اعلان وقف إطلاق النار عنوانان متناقضان. الأول تصدّر تصريحات فعاليات محور “الممانعة”، وفي مقدمهم الأمين العام لـ “حزب الله” الشيخ نعيم قاسم، الذي أسهب في شرح كيف أن “المقاومة الإسلامية” حققت النصر من خلال صمودها في وجه العدو الإسرائيلي ومنعه من تحقيق أهدافه. أمّا العنوان الثاني فجاء مكمّلًا لمواقف سابقة ردّدها أركان “المعارضة”، الذين اعتبروا أن لبنان هو الخاسر الوحيد في هذه الحرب، التي أعادته إلى الوراء عشرات السنين. وفي اعتقادهم أنه لو لم يسند “حزب الله” قطاع غزة بالنار والحديد لما حدث ما حدث، مع تسجيلهم التأكيد أن العدو الإسرائيلي لا يحتاج إلى ذريعة لكي يعتدي على لبنان وسيادته. ويقول هؤلاء إنه لو فعل جيش الاحتلال ما كان يخطّط له قبل إعطائه ذريعة تدمير القرى الجنوبية والبقاعية والضاحية الجنوبية لكان “حزب الله” قد ضمن على الأقل وقوف العالم في صفّه، وكذلك وقوف جميع اللبنانيين بكل أطيافهم السياسية وراء “المقاومة” في دفاعها عن لبنان في وجه المحتّل، ولكانت هذه المقاومة قد أخرجت نفسها من شرنقة الطائفية لتنتقل من “مقاومة إسلامية” إلى “مقاومة وطنية”.
وعلى رغم ما في كلمته من مفردات رأى البعض فيها نوعًا من عدم الواقعية الميدانية فإن الشيخ قاسم كان أكثر واقعية وموضوعية في النقاط الخمس، التي ذيّل بها كلمة “النصر”، والتي حدّد فيها معالم المرحلة المقبلة، والتي من المرجّح أن “حزب الله” سيغلّب فيها الجانب السياسي على الجانب العسكري، فاختصر المرحلة المقبلة بخمس نقاط تركزت على إعادة الإعمار، واعادة تشكيل السلطة وانتخاب رئيس للجمهورية، والحفاظ على الوحدة الوطنية تحت سقف اتفاق الطائف، والتحاور والتشاور مع كل القوى السياسية والحفاظ على وجود ودور “حزب الله” سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. أما النقطة الخامسة والأهم فكانت عن السلاح واشارته إلى الدفاع عن لبنان بتعزيز قوة الدولة اللبنانية وخصوصاً الجيش، وكأن به يمهد الطريق أمام البحث الجدي عن آلية جديدة للاستراتيجية الدفاعية.
ففي قراءة هادئة ومتأنية للكلام السياسي لقاسم يتبيّن من خلال ما تضمنته من إشارات ودلائل أن “الحزب” مقبل على مرحلة جديدة من العمل السياسي من خلال ما التزم به حين وافق على إجراءات وقف النار، ومن ضمنها القرار 1701، وما فيه من قرارات سابقة ذات صلة. وهذا ما طالبته به قوى “المعارضة” عندما دعته إلى الانخراط في العمل السياسي بعيدًا عن التأثيرات السلبية لمنظومة السلاح وترسانته العسكرية، التي لم تستطع أن تحمي لبنان من الاعتداءات الإسرائيلية الجوية، وإن كان العدو قد لاقى مقاومة شرسة قبل أن يتسّلل إلى القرى الأمامية وتفجيره للأنفاق والتحصينات العسكرية.
فالتزام “حزب الله” بمندرجات القرار 1701 يمكن اعتباره أول خطوة في مسيرة الألف ميل للانخراط في العمل السياسي مثله مثل أي حزب آخر، حتى مثله مثل حركة “أمل”، وذلك توصلًا إلى رسم خارطة طريق لمسار طويل يتطلب الكثير من مراكمة التأقلم مع الواقع السياسي اللبناني. وكان لافتا تكرار الشيخ نعيم قاسم للمرة الثانية، في كلمتين له متتاليتين، الحديث عن ضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية من خلال اتفاق الطائف هو المدخل الحقيقي، الذي سينتج عنه طبيعيًا الذهاب إلى انتخاب رئيس للجمهورية في جلسة 9 كانون الثاني المقبل بمواصفات بدأت ملامحها تتبلور أكثر فأكثر، وبدأ التفكير جدّيًا بإسقاط هذه المواصفات على عدد من المطروحة أسماؤهم في بورصة الترشيحات. وقد يكون من بين هذه المواصفات التي قد تنطبق على الشخصية، التي سيتم التصويت لها، هي ألاّ يكون قريبًا من مناخ “الثنائي الشيعي”، ولكنه في الوقت نفسه لا يكون معاديًا لخيارات “حزب الله” في نسخته السياسية الجديدة.
أمّا حديثه الإيجابي عن الجيش فجاء بمثابة “الاعتذار” الضمني وغير المباشر عندما طلب من قيادته شرحًا مفصلًا عن ملابسات حادث البترون. وقد تزامن موقفه الإيجابي من الجيش عقب تصويت نواب كتلة “الوفاء للمقاومة” لصالح التمديد لقائد الجيش العماد جوزاف عون. فما بين 29 تشرين الثاني و9 كانون الثاني مسافة زمنية ستكون حافلة بالمبادرات، وبالأخص من قِبل اللجنة الخماسية الرئاسية.