اخبار محلية

هوية الشيعة الحقيقية هي لبنانيتُهم وليس الحزبية المُسْدَلَةَ عليهم

على مدار مئة سنة، كانت الحاجة الدائمة الوحيدة التي يُعبّر عنها المواطنُ  اللبناني الفَرد هي حاجتُه إلى الدولة، ليس إلى الطائفة ولا إلى الزعيم.

وإذ ننظرُ مئة سنة إلى التاريخ رجوعاً، بل استرجاعاً، إلى البطريرك الحويك واللبنانيين الذين شاركوه إعلان دولة  لبنان الكبير، هل نرى أنفسنا فيهم.. هل نشعر بطمأنينة.. بامتنان؟

أم أننا ننظرُ إليهم بعين الغضب والتقريع لِما أقدموا عليه.. لما فعلوه؟

بل ستحمل نظرتُهم هم إلينا تقريعاً ولَوماً وأسى، ذلك أنهم لم يخوضوا إعلان دولة لبنان الكبير لنُفرّطَ فيه نحن ونهدِمَه.

لو جازَ أن نعكسَ الأمثال الشعبية لأَمكنَ القول: “الأبناءُ يأكلون الحِصرَمَ والآباءُ يضرسون”!

ما زال هذا اللبنانُ الكبير مطلوباً من هؤلاء الأبناءِالمواطنين، ولكنه ما زالَ مطروداً من زعماء الطوائف.

حمى المتوسط
خمسون من تلك المئة استهلكتنا في حروب متّصِلة ومتناسِلة: حروبُنا على أنفسِنا، حروبُ بعضِنا (وربما كلّنا) على الدولة، حروبُ إسرائيل المتواصلة علينا، ثُمَّ حروبُ بعضنا، تعدّياً، على دولٍ أُخرى وفي دولٍ أُخرى.
عندما اندلعت أوُلى تلك الحروب في نيسان 1975 انطلقت رصاصاتُها الافتتاحية من وراء جدارٍ متهالكٍ متاخِمٍ لمدخلِ بنايةِ بيتِنا. كان الشيخ محمد مهدي شمس الدين قد سبقها ببضعةِ أيامٍ فقط، إذ سافر إلى الخارج للعلاج من حالة غامضة مستعصية شُفيَ منها لاحقاً، وتبيّنَ أنها حُمّى متوسطية غريبة بعض الشيئ، إذ كانت لها أصول في العراق. ولا يزالُ العراق يستنبتُ ويستولدُ حمّى غريبة في ممارساته السياسية؛ ولا يزال المتوسطُ في حمّى في كلِّ أحواضه تقريباً، تلك الناطقة بالعربية بكل لهجاتها، وتلك الناطقة باللاتينية بكل تلاوينها؛ ولا يزال هذا المتوسطُ الكئيبُ على ضفافِه الأوروبية والمشتعلُ على ضفافِه العربية يبتلِعُ ويلفظُ في آنٍ معاً، جثثاً لأرواحٍ حرّة كانت في أجسادٍ حيّة تهربُ من الموت المحمولِ على أكتافِ القمعِ والاستبداد وغيابِ الحرّياتِ، وفشل أكثر الحكوماتِ في عالَمِنا العربي. هذا الفشلُ المُعزّزُ بِدِينٍ نبيلٍ شَوّهَه وحَقّرَه مُلتزِموه، وسَخّفَه بعضُ الملتزمين به. ولكن تأنّقَ أوروبا ورُهابَها معاً جعلاها ترمي على شواطئنا أكياسَ النقود لتحمي شواطئها؛ أكياسٌ تبتلعُها حيتانُ الحكّامِ عندنا ولا تنالُ أسماكُ الوطنِ منها إلاّ بقايا الخيطان.

تلك حمّى المتوسط التي تكاسل شمالُه عن شفاء جنوبِه منها بعلاجاتِ الديمقراطية بدل دعمِ الاستبداد، وبتعزيزِ المواطَنةِ بدل ترسيخِ الزعامات. ذاك المتوسط اللاتيني الذي ظهرت الحُمّى الكامنةُ فيه بعد مَقتلةِ غزّة، إذ انكشف انفصامُه إلى شخصيتين متعارضتين: شخصيةُ “جيكِل jekyll” في مُعظم شعوبه، وشخصيةُ “هايْد hyde ” في مُعظم حكوماته.

حكم السيء والفاسد
خمسون عاماً مرّت من عمرِ جيلي ولم تنتهِ الحروب ولم تتوقف؛ استهلكتْ جيلاً كاملاً وتكادُ تقضي تماماً على جيلٍ ثانٍ؛ هل هي خصوصية الحرب أم هي خصوصية لبنان؟

إنها خصوصيةُ زعماءِ لبنانَ بحُكمِهم السيئ والفاسدِ الذي يقتلُ الوطنَ ويقتل الأجيالَ ويقتل الجمهوريّات. ليس صحيحاً أننا انتقلنا إلى جمهورية ثانية؛ ما زلنا في الجانب الطفولي من أوليّات جمهورية؛ النظام الأول النخبوي الطائفي المالي المناطقي لم يستطِعْ ان ينقلَ نفسه وجمهوريتَه إلى صيغةٍ أكثرَ رحابة وأكثرَ مشاركة مع ضبطٍ ونظام، فاختنقَ بجفافِ أفكاره ثم انفجر في حرب؛ ولم يستطِع أن يدافعَ عن صيغته الجامدة حتى مع كل الأدوات والتحالفات، فانهزم أمام تحديثٍ جيّدٍ للصيغة في اتفاق الطائف.

دخل الجميعُ في الصيغة الجديدة شركاءَ متساوين، ولكن صار من بينهم منتصرون باستقواء سوري مُفسِد. أُزيلت فضائلُ الطائف لتحلَّ محلّها قبائحُ الطوائف وتحديداً ميليشياتُها وزعماؤها؛ أقبحُ ما حدثَ هو إدخال الميليشيات في الدولة؛ كمن يمزجُ النجسَ بالطاهر، كمن يُدخلُ الزاني إلى حرمِ الشريفة، كمن يُعيدُ استضافةَ يهوذا إلى المائدة المقدسة حتى بعد افتضاحِ دورِه في صلب المسيح.

عُطِّلَ الدستورُ في لبنان كما عُطِّلَ القرآنُ في سوريا والعراق، وصار كِتابُنا في لبنانَ أداةَ قمعٍ ونهبٍ على بوابة التوافقية، واستُعمِلَ قرآنُنا أيضاً أداةَ قتلٍ وتوحُّشٍ على أبواب الجنّةِ المُدّعاة.

لقد أفسدت سلطةُ الوصايةِ القديمة الصيغةَ  اللبنانية الجديدة بإدخال مفسِدين فيها، فتحكّمت بكل شيئ ومنعتها من الثباتِ وبالتالي من الحياة، وتمّتْ إعادةُ استيلادِ النظام القديم ولكن بقباحة أكثر ووقاحة أكبر؛ لم تعُد المهلُ الدستورية تُحترم، وصارت السلطة، بل السلطات الدستورية، أقرب إلى الديمومة منها إلى التداول؛ حُجزت الانتخابات فمُدّدت ولايةُ رؤساء الجمهورية واستطالت ولاية مجلس النواب حتى نسينا متى بدأت ولا نعرف متى تنتهي، وصار الدستور ألعوبة في أيدي أعضاء المجلس الذي انتفخَ حتى صار يقولُ إنه سيّدُ نفسِه ثم صار سيّدُه سيّدَ كلِّ شيئ؛ وانحسر رئيسا الجمهورية والحكومة، فصار يؤتى بهما أو يُمنعانِ أو يؤَخّرانِ أو يُبدّلانِ كما الخليفة في آخر العباسيين.. الجُندُ-الميليشيات هي التي تُنصّبُ الخليفة وتعزله.

الساعة المعطوبة
لم نَهْنأْ بالطائف ولم نتمكن من أن نُربّيَ أولادَنا فيه ولا أن نَبنيَ مستقبلَهم من خلاله، بل أُرغِمْنا على النُكوصِ والعودةِ إلى الطوائف بكل قُبحها وشرِّها، وصارت أحزابُنا سجّانينا، وصرنا مجرّدَ ولاّداتٍ للهِجرة، وفي غرابةٍ شديدة صار وطنُنا أرضاً للمهَجّرين.

بقيَ النظامُ في  لبنان كالساعة المعطوبة، ينبُضُ عقربُ ثوانيها محاولاً التقدّمَ بحيوية، لكنه يبقى عالقاً في النقطة نفسِها وفي الزمنِ نفسِه، يأبى مغادرةَ زمانِه رغم تقدمِ الزمن؛ ترى الساعةَ تنبُضُ بحيوية ولكنها لا تتقدمُ في الحياة.

احتاج الزمنُ والوطنُ إلى جريمةٍ بحجمِ اغتيالِ رئيس حكومة حتى يتحررَ من الوصاية. غادَرَ جيشُ النظامِ السوري عندما دفع اللبنانيون عقربَ ساعتِهم إلى الأمام بأيديهم واستبشرنا جمهوريةً جديدة. لكنَّ النظامَ الماكر أعاد انتاجَ نفسِه عبر رباعيةٍ خبيثة استبْقَتْ دولةَ العصابة وأقْصَتْ الدولةَ المدنية مطلبَ اللبنانيين.

خرجَ اللبنانيون كلُّهُم ليستعيدوا وطنَهم ودولتَهم في تشرين، لكنهم جُلِدوا ورُجِموا وفُقِئَت أعينُهم ببنادقَ رسمية تستعمِلُها ميليشيا مُرقّطة. ثم ازدادت العصابةُ عدداً بانضمامِ حيتانِ المصارف، فسَرقَتْ قِرشَهم الأبيضَ وحمّلتْهم سوادَ الأيام.

لقد صار فشلُ النظامِ مدوِّياً وفشلُ حكّامِه فضيحة؛ لكن الفسادَ والوحشيةَ السياسيةَ لا تُمكّنُهم من الاعتراف بعجزهم وفشلهم؛ أصبحوا مخلوقاتٍ يجب أن تنقرضَ كالديناصورات، لكنهم بقوا يقتاتون على صبرٍ كَسيرٍ وأملٍ واهِمٍ للناس.. ثمَّ أَدخَلوهم في حرب إسنادٍ من دون سندٍ ولا ظَهيرٍ وبلا فِقْهٍ حتى؛ لا بل إن الظَهْرَ الذي كان يتسوّقُ رئيساً يحميه طعَنَه رئيسٌ ولم يحْمِهِ فقيه.

انتخاب الرئيس
إنَّ الفِقهَ الذي يسوقُ الناسَ إلى القتلِ هو فِقهُ استبداد؛ والاستبدادُ هو طريقُ الظُلْم. لا أعرِفُ أحَداً معصوماً قد اسْتبَدّ..

إنَّ قضية العدل في الحكم هي القضية الكبرى في الفكر السياسي الإسلامي؛ والفقيه الذي يستبِدُّ فيظلِم تسقطُ عدالتُه، وإذا سقطتْ عدالتُه سقطتْ ولايتُه.

يجبُ ألاّ تخلو الدولةُ من رئيس، ولا “يمشي الحال” من دون رئيس. عندما غابَ النبيُّ موسى (ع) عن قومِه مُدّةً من الزمن استبدلوا ربّهُم بعجلٍ ذهبي! عندما تُغيّبُ رئاسةُ الجمهورية أو يُمنعُ انتخابُ رئيس، يُستبدلُ النظامُ بالفوضى والمؤسسةُ بالأزلامِ والعدلُ بالظلمِ والحريةُ بالقهرِ والطمأنينةُ بالخوفِ والوحدةُ بالتفرّقِ والسِّلمُ بالحرب.

إنَّ الرئيس يأتي بانتخابٍ حُرٍ في مجلس النواب، والتوافقُ هو عمليةُ الانتخابِ نفسُها وليس شرطاً لها ولا مُقدِّمة، وبالتالي يكونُ الرئيسُ وليدَ انتخابٍ دستوريٍ حُر، وليسَ وليدَ ترتيبٍ مُدَبَّر.

الولدُ الشرعيُ يُنسَبُ إلى أبيه الشرعيّ، وليس إلى “لقاءٍ يسبِقُ أباه”.

الطائف والمشاركة
الدولةُ العادلة في لبنان لا تُبنى إلاّ بالمشاركة وليس بالغَلَبة؛ والغلبةُ تعودُ لتغلِبَ أصحابَها.

تلك المشاركة قد تحققت في اتفاق الطائف؛ وهذا الاتفاقُ ليس ضرورةً مرحلية زالت بمرورِ الوقت، بل أصبح جزءاً أساسياً من سلامة ووحدة لبنان، ويجب أن يُنفَّذ كاملاً.

إنَّ اتفاقَ الطائف هو أساسُ بناءِ الدولة العادلة في لبنانَ، وهو مفتوحٌ على المستقبل. وهذا الاتفاقُ هو اعتِدالٌ بين جُودَتين: جودةُ النظامِ الديمقراطي، وجُودةُ المشاركةِ النَصوحِ للطوائف؛ وهو في الوقتِ نفسِه خلاصٌ من رذيلَتيْن: رذيلةُ تفَرُّدِ بعض طائفة واحدة بالحُكم، ورذيلةُ التحكّمِ المسْتَبِد للطوائف بالدولة؛ والامتِناعُ عن تطبيقه أوقعَنا في الثانية وكادَ أن يجرَّنا إلى الأولى.

 اللبنانيون الشيعة ليسوا في خطر، ولا يستطيعُ أحدٌ ان ينتقِصَ من شراكتهم الثابتة في الصيغة اللبنانية، لأن هذه الشراكةَ محميةٌ بقوةٍ ومضمونةٌ في اتفاق الطائف الذي صار دستوراً مُلزِماً؛ وهم في الوقت نفسه، كما الآخرين، لا يحتاجون إلى أيِّ خارجٍ يحميهم، ذلك أن اللبنانيين، كلُّ اللبنانيين، يحمونهم من كل خارجٍ يطمعُ في استلحاقِهم أو أذيّتِهم، شرطَ أن يكون مشروعُهم مشروعَ مواطنيهم اللبنانيين ومشروعَ وطنِهم حصراً؛ ويجب أن يصدّقوا أنهم ليسوا مطاردين ولا مهددين، ذلك أنهم أَعِزّةٌ في وطنِهم؛ ولم يعودوا مظلومين. ذلك أن اتفاق الطائف قد أنصَفَهم، وبالتالي لا يحتاجون إلى أن يكونوا منفردين بالسِّلاح ولا أن يعزِلَهم أيُّ حزبٍ بالسلاح.

اللبنانيون الشيعة هم أبناءُ هذا الوطن ومِن بُناتِه، والدولةُ هي مشروعُهم الوطني التاريخي، وليس لهم دولةٌ بديلة أو ثانية، وهم ليسوا جزءاً من شيعيةٍ وهْميةٍ مُختلَقةٍ عابرةٍ للأوطان تُستعارُ للقتالِ والموتِ عبرَ القِفارِ والبحار.

إنَّ اللبنانيين المسلمين الشيعة هم مواطنون في وطنهم وليسوا مواطنينَ في الأحزاب، وهويتهم الحقيقية هي لبنانيتُهم وليس الحزبية المُسْدَلَةَ عليهم؛ وهم -كجماعة- مُعَرّضين لاحتمال أن يكونوا ضحايا لوضعٍ خاطئ حتّى في داخلهم، أكثر من احتمال أن يكونوا -كجماعة- مبادرين إلى إساءةٍ أو عدوانٍ أو فتنة.

إننا جميعاً، مسلمين ومسيحيين، في شراكة حقيقية للحياة وللمصير، إمّا ان ننسُجَها معاً خيطاً خيطاً أو لا تقومُ لنا قيامة؛ إمّا أن ننهضَ جميعاً ومعاً أو أن نسقطَ واحداً واحداً؛ وقد رأينا، وها نحن نرى عن قُربٍ شديد أن السقوطَ قد أحاط بكُلِّ من يظلِمُ ويستبدُّ مهما بَدا ممتنِعاً.

هذا النهوضُ يقتضي منّا أن نصبرَ على بعضنا البعض، وأن يثقَ بعضُنا ببعض، وأن نكونَ رُعاةَ بعضِنا البعض، وأن نستكينَ نهائياً إلى وطنِنا  لبنان، يحضُنُنا ولا نلسَعُه كالعقارب، يحمينا ولا ننهشُه كالذئاب، ولا نطعَنُه غَفْلةً.. كالحَمْقى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com