اقتصاد

حفلة جنون الدولار: هل ستنتهي قريبًا ؟!

كتب علي نور الدين في المدن: 

حتّى كتابة هذه السطور، كان سعر صرف الدولار في السوق الموازية قد تجاوز حدود 36,100 ليرة، بعد أن لامس صباحًا عتبة 36 ألف ليرة، في الوقت الذي تشير فيه جميع المعطيات إلى أنّنا أمام موجة جديدة من موجات الهبوط السريع في قيمة الليرة اللبنانيّة. تسارع الارتفاع في سعر صرف الدولار خلال الأيام الماضية، لا يمكن فصله عن جملة من العوامل التي تقاطعت في أواخر فصل الصيف، والتي تتصل جميعها بعبثيّة وفوضى السياسة النقديّة التي ينتهجها مصرف لبنان. وهذه العبثيّة في أداء المصرف المركزي باتت تتصل بدورها بغياب الإطار الأوسع من المعالجات، التي كان من المفترض أن يندرج من ضمنها توحيد وتعويم سعر الصرف. أمّا ما يمكن استنتاجه من كل ذلك، فهو أننا سنكون أمام حفلة جنون نقديّة خلال الأشهر المقبلة، وأنّ الارتفاع الحالي في سعر صرف الدولار مجرّد بداية لدوّامة التضخّم السريع المقبلة.

نهاية حبل نجاة موسم الاصطياف

لا يوجد رقم دقيق لعدد الزائرين، من سيّاح أجانب ومغتربين، الذين وفدوا إلى لبنان خلال الأشهر الأربعة الماضية. لكنّ أرقام وزارة السياحة تقدّر هذا الرقم عند حدود 1.5 مليون زائر، بما كان كافيًا لرفد السوق بعائدات قاربت 4.5 مليار دولار. وبهذا، تحوّل موسم الاصطياف إلى حبل نجاة حمّله مصرف لبنان ما يريد من قرارات نقديّة، مراهنًا على تدفّق هذه الدولارات إلى السوق الموازية. وعلى هذا النحو، بدأ مصرف لبنان بتسليط شركات الصرافة وتحويل الأموال التي يعمل معها، لتحصيل الدولارات من السوق الموازية. كما قام بالاستفادة من ارتفاع حجم المعروض النقدي من العملة الصعبة في السوق الموازية، للانسحاب تدريجيًّا من مهمّة تأمين الدولارات لمستوردي البنزين، وإحالتهم لطلب الدولارات من السوق الموازية.

لكن مع انقضاء أشهر الصيف، بدأ معروض العملة الصعبة الناتج عن موسم الاصطياف بالنضوب. وهو ما كشف كل الاختلالات في موازين العرض والطلب، التي تراكمت طوال الأشهر الماضية، والتي غطّاها تدفّق دولارات الوافدين السيّاح والمغتربين إلى السوق الموازية. ببساطة، إنتهى حبل نجاة موسم الاصطياف، الذي تمسّك به مصرف لبنان منذ شهر حزيران الماضي، وبات على المصرف المركزي مواجهة واقع توازنات العرض والطلب كما هي فعليًّا.

دولارات استيراد البنزين

مثّل قرار مصرف لبنان يوم أمس، القاضي بالانسحاب نهائيًّا من مهمّة تأمين الدولارات لمستوردي البنزين، آخر الخطوات في اتجاه تحرير أسعار البنزين كليًّا، وربطها بسعر صرف السوق الموازية (راجع المدن). وهذا القرار سيعني من الناحية العمليّة رمي كل عبء طلب الدولار لاستيراد المادّة على كاهل السوق الموازية، ما سيمثّل من الآن وصاعدًا ضغطاً مستمراً ومستداماً على سعر صرف الليرة اللبنانيّة، كحال الضغط الذي سببه منذ العام الماضي طلب الدولارات لاستيراد المازوت. مع الإشارة إلى أنّ مصادر عاملة في سوق القطع تقدّر حجم الطلب الشهري على العملة الصعبة لاستيراد البنزين بنحو 220 مليون دولار، ما يمثّل قيمة وازنة قياسًا بحجم تداولات السوق الموازية المتواضع، وتوازنات العرض والطلب فيه. وقيمة الطلب على الدولارات مرشّحة للارتفاع حكمًا، في حال عودة أسعار النفط العالميّة للارتفاع.

تكالب الصيارفة على جمع الدولارات لحساب مصرف لبنان

طوال الأشهر الماضية، اعتمد مصرف لبنان على شركة “أو. أم. تي.” لشراء الدولارات من السوق، حسب سعر صرف خاص متفق عليه مع الشركة. بداية هذا المسار بدأت بحجّة شراء دولارات التحويلات الواردة طوعًا من المستفيدين منها، فيما حصلت الشركة على عمولة قاربت حدود 3% من الدولارات التي تقوم بشرائها لحساب المصرف المركزي. لكن مع الوقت، قررت الشركة التوسّع في هذه العمليّة، تحت إغراء نسبة العمولة المرتفعة، ما دفعها إلى التعامل مع مجموعة من شركات الصيرفة لجمع الدولارات من السوق.

بدأت الأمور تفلت من عقالها خلال الأسابيع الماضية، حين قرّر مصرف لبنان منح “امتياز” جمع الدولارات على هذا النحو من السوق الموازية لشركات أخرى، ومقابل العمولة نفسها المرتفعة جدًّا. وهذا ما سمح عمليًّا لتلك الشركات بتحصيل مئات آلاف الدولارات من الأرباح، بمجرّد التعامل مع شركات الصيرفة الكبرى لجمع العملة الصعبة من السوق، مقابل منح شركات الصيرفة نسبة من الربح. ومنذ ذلك الوقت، أطلق المصرف المركزي العنان لموجة من موجات التكالب لشراء الدولارات من السوق، مع تسابق الشركات فيما بينها لجني العمولة المرتفعة لقاء جمع هذه الدولارات.

وهذه العمليّة بحد ذاتها، تحوّلت إلى سبب إضافي من أسباب الارتفاع المستمر في سعر صرف الدولار مقابل الليرة، بعدما تحوّلت عمليّة جمع الدولارات لمصلحة مصرف لبنان إلى منافسة شرسة بين اللاعبين الكبار في السوق.

تراجع أعمال المنصّة

لم يقتصر التراجع في عمل المنصّة على انسحابها من مهمّة تأمين الدولارات لمستوردين البنزين، فطوال الأسابيع الماضية، عمدت المصارف تدريجيًّا إلى تقليص حجم الدولارات التي تقوم ببيعها من خلال منصّة صيرفة، سواء لمستوردي سائر أنواع السلع، أو لأصحاب حسابات توطين الراتب. وبذلّك، تقلّص تدريجيًّا حجم السيولة التي كانت تلبّي جزءاً من حاجة المستوردين للدولارات عبر المنصّة، كما تقلّص حجم الدولارات التي كان يجري ضخّها في السوق عبر بيعها لأصحاب حسابات توطين الراتب بسعر المنصّة.

في النتيجة، تقاطعت كل هذه العوامل لتطلق عنان موجة ارتفاع سعر صرف الدولار التي نشهدها اليوم، والتي لا يبدو أنّها ستنتهي في القريب العاجل، مع استمرار كل هذه الضغوط على قيمة الليرة في السوق الموازية. أمّا الإشكاليّة الأهم، فتبقى غياب الرؤية المتكاملة لكيفيّة التعامل مع أزمة سعر الصرف، ووفق مسار واضح لكيفيّة توحيد أسعار الصرف والتخلّص من الفوضى النقديّة القائمة. مع الإشارة إلى أنّ كل هذه الضغوط ستبقى مرشّحة للتصاعد، إذا شهدت الأسواق العالميّة معدلات تضخّم إضافيّة في أسعار المواد الأساسيّة، ما سيعني زيادات إضافيّة في الطلب على الدولار لزيادة الاستيراد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com