رياض سلامة يخيّر اللبنانيين بين أمرين أحلاهما مرّ
“درج”: علي نور الدين – صحافي لبناني
المطلوب اليوم الاتجاه لرفع الدعم، مع ما سيعنيه ذلك من ارتفاع خيالي في أسعار المختبرات الطبية وفاتورة الاستشفاء وثمن الدواء، لكن في المقابل، لن يتم مساءلة المصرف المركزي أو الحكومة عن سبب عدم وجود أي خطة لتفادي الوصول إلى هذه المرحلة .
لا يمكن الاستخفاف بتداعيات وأبعاد بيان مصرف لبنان الأخير.
فالمصرف أعلن وبصريح العبارة أنه لن يقدم على المسّ بما تبقى من احتياطات الزاميّة أودعتها المصارف لديه لدعم استيراد الأدوية والمستلزمات الطبيّة، ما يعني أن البلاد باتت قاب قوسين أو أدنى من رفع الدعم. هذا يعني أن اللبنانيين ينتظرهم حال تضخّم هائل وغير مسبوق في أسعار الأدوية والإستشفاء، وربما نكون على أبواب مرحلة انقطاع هذه السلع بشكل كلّي إذا استمر الدعم في ظل امتناع مصرف لبنان عن تمويل استيرادها.
موقف مصرف لبنان مثّل منعطفاً رئيسياً في سياق الأزمة الماليّة وتداعياتها على القطاع الصحي، وخصوصاً لجهة توفّر الدواء والمستلزمات الطبيّة في الصيدليات والمستشفيات، مع العلم أن البلاد دخلت تدريجيّاً مرحلة تقنين استيراد الأدوية والاحتياجات الطبية منذ مدّة، ما انعكس على شكل انقطاع في العديد من الأدوية والمستلزمات الطبيّة الأكثر حساسيّة في المستشفيات والصيدليات.
باختصار نحن أمام معادلة واضحة المعالم: إما الدعم وانقطاع الدواء، وإما رفع الدعم وتضاعف أسعار كل ما بالقطاع الصحّي والاستشفائي.
استنفاد الاحتياطي خلال شهر أيار
يعتمد مصرف لبنان على احتياطاته المتبقية من الودائع التي وظفتها المصارف لديه، لتوفير الدولار بسعر الصرف الرسمي القديم، أي 1507.5 ليرة للدولار، لمستوردي الأدوية والمستلزمات الطبيّة. في آخر الميزانيات التي نشرتها المصارف اللبنانيّة، تبيّن أن حجم الودائع المتبقية في النظام المصرفي بالعملات الأجنبيّة تجاوز حدود الـ108 مليار دولار، ما يعني أن الاحتياطي الإلزامي المودع لدى مصرف لبنان كضمانة لهذه الودائع، والذي يرفض المجلس المركزي للمصرف المساس به، يتجاوز حدود الـ16.34 مليار دولار، علماً أن تعاميم مصرف لبنان تحدد نسبة هذا الاحتياطي الإلزامي بنحو 15% من إجمالي قيمة الودائع الموجودة بالعملة الأجنبيّة. مصرف لبنان يخشى أن يؤدّي المساس بهذه السيولة إلى تداعيات قانونيّة في الخارج تمس بأموال مصرف لبنان المودعة في المصارف الأجنبيّة.
في مقابل هذا المستوى من السيولة الذي لا يمكن المساس به، تُظهر أرقام مصرف لبنان في منتصف شهر أيار أن ما تبقى من احتياطات سائلة بحوزة المصرف المركزي بالكاد يتجاوز مستوى الـ16.43 مليار دولار، ما يعني أن المصرف استنفد تقريباً احتياطاته القابلة للاستخدام، وما تبقى لامس خلال هذا الشهر بالتحديد مستوى السيولة الذي لا يمكن استخدامه. أما رسالة نقابة المحامين، والتي حذّرت المصرف المركزي من عواقب قانونيّة وخيمة في حال المضي قدماً باستنفاد الاحتياطات الالزاميّة، وما رافقها في بيانات أخرى من التلويح باللجوء إلى المحاكم الدوليّة والحجز على أموال مصرف لبنان في الخارج، فشكلت عامل ضغط إضافي أبعد الحاكم عن فكرة المساس بما تبقى من أموال.
لكل هذه الأسباب، بدأت خلال الأيام الماضية كل عوارض شح السيولة، ومنها التضييق على القطاع الاستشفائي ومستوردي الأدوية والمستلزمات الطبيّة، وشح المحروقات المتوفرة في محطات الوقود أو مؤسسات كهرباء. ولعلّ مسارعة مصرف لبنان لإطلاق المنصّة باستعجال واضح، لم يكن سوى تمهيد طبيعي لمرحلة رفع الدعم عن كل هذه السلع، خصوصاً أن المنصة ستشكل عملياً المساحة الوحيدة المتاحة لشراء الدولار النقدي للاستيراد، بعد وقف دعم عمليات استيراد السلع الأساسيّة التي كانت تعتمد على دولارات مصرف لبنان
التمهيد لوقف الدعم
في واقع الأمر، بدأ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة يمهّد طوال الأشهر الماضية لمرحلة رفع الدعم عن القطاع الصحي واستيراد الأدوية والمستلزمات الطبيّة، من خلال تقنين معاملات توفير الدولار المدعوم إلى أقصى، وخلق حالة من الشحّ الشديد في موجودات الصيدليات والمستشفيات من الدواء والمستلزمات الطبيّة، بما يجعل رفع الدعم لاحقاً أهون الشرور مقارنة مع حالة انقطاع هذه المواد الحساسة. ولهذه الأسباب، تراكمت طوال الأشهر الماضية معاملات الاستيراد في أدراج مصرف لبنان، ولمدّة أشهر من تاريخ تقديمها، وصولاً إلى مرحلة تجميد هذه المعاملات بشكل كلي خلال الأسابيع القليلة الماضية.
لم يكن الهدف من هذه الإجراءات فقط التمهيد لرفع الدعم وخلق مشهد مؤاتي لذلك، بل أيضاً نقل جزء من عمليات استيراد الدواء والمستلزمات الطبيّة إلى السوق السوداء. فجزء كبير من هذه المواد غالباً ما يتم استيراده لغايات وعمليات طبيّة طارئة، كحال بعض المستلزمات المستعملة في بعض العمليات الجراحيّة مثل بطاريات القلب أو مستلزمات ترميم العظم، أو أجهزة التنفّس الاصطناعي التي عانت بعض المستشفيات من شحها في أوج أزمة كورونا. ولذلك، انتقل عدد كبير من مستوردي هذه المواد إلى طلب الدولار النقدي عند استقبال طلبات المستشفيات أو المستوصفات الطبيّة، لعدم واقعيّة انتظار معاملات مصرف لبنان التي تحتاج لأشهر طويلة قبل المصادقة عليها. علماً أن بعض المستوردين بدأوا باستيراد وبيع معداتهم الطبيّة بالدولار الطازج لعدم ثقتهم بمستقبل المعاملات العالقة في مصرف لبنان وإمكانية حصولهم على التمويل المطلوب للإستيراد، ولإدراكهم أن بعض المستلزمات كفلاتر غسيل الكلى لا يمكن الاستغناء عنها من قبل المرضى ما يمكّن المستورد من فرض الدفع بالدولار الطازج.
وإذا كان بعض مستوردي المستلزمات الطبيّة اشترطوا تأمين الدولار الطازج لمعرفتهم بإمكانية تأمينه من بعض المستشفيات أو العمليات الجراحيّة العاجلة والاستثنائيّة، لم تكن هذه المسألة ممكنة بالنسبة إلى مستوردي الأدوية، الذين يعتمدون على بيع الأدوية للصيدليات التي تحصّل ثمنها بالليرة اللبنانيّة. ولذلك، كانت النتيجة انقطاع معظم أصناف أدوية الأمراض المستعصية من الأسواق، وبالأخص مع تهافت المرضى على شراء هذه الأدوية نتيجة حالة الهلع التي صاحبت الشح في سوق الأدوية. علماً أن التوقعات بزيادة أسعار الأدوية في الفترة المقبلة، بعد رفع الدعم، زادت من وتيرة الطلب على الأدوية.
من الأدوية التي انقطعت اليوم مثلاً، بعض الأدوية المستخدمة لمعالجة الحالات السرطانيّة المستعصية، أو الأدوية المكمّلة لعلاج أمراض الكلى أو الغدد، بالإضافة إلى بعض أدوية الأعصاب والسكري والقلب والأمصال على أنواعها وغيرها من الأدوية التي يحتاجها المرضى بشكل منتظم وعلى مدى طويل. وحتّى بعض الأدوية البسيطة، كالبنادول مثلاً، انقطعت على نحو مفاجىء من الغالبيّة الساحقة من الصيدليات. أما المفاجأة الكبرى، فهي قيام بعض شركات الأدوية بفتح باب بيع بعض الأدوية عند معرفتهم بوجود الدولار الطازج بيد المريض، وهو ما مثّل نوعا من الابتزاز المادّي في ظل هذه الأزمة الإنسانيّة الخانقة.
التهريب والاحتكار والسوق السوداء
ثلاثة ظواهر أدّت إلى تفاقم المشهد السوداوي هذا. فالتهريب لم يكن مسألة سهلة بالنسبة إلى المستلزمات الطبيّة،
التي عادةً ما يتم بيعها إلى جهات مختصّة بعمليات صحيّة محددة كالمستشفيات والمختبرات الطبيّة والمستوصفات،
وهو ما يجعل من تتبعها مسألة سهلة. لكن بالنسبة إلى الأدوية، مثّل التهريب بابا واسعا من أبواب الكسب غير المشروع،
بسبب صغر حجمها ووزنها الخفيف قياساً بقيمتها المرتفعة، وخصوصاً بالنسبة إلى أدوية الأمراض المستعصية المرتفعة الثمن. وهكذا،
تمكّن المهربون من شراء الأدوية بالسعر المدعوم وفقاً لسعر الصرف الرسمي القديم،
قبل بيعها بالدولار الطازج في الخارج. مع العلم أن قيمة الدولار الطازج اليوم توازي أكثر من 8.65 مرات سعر
الصرف الرسمي القديم، ما يحقق للمهرّب أرباح ضخمة من صفقات سريعة وبسيطة.
في المقابل، اختار بعض التجار اللجوء إلى عمليات الإحتكار، أي تخزين المستلزمات الطبيّة أو الأدوية التي جرى شراؤها
وفقاً لسعر الصرف الرسمي القديم، بانتظار رفع الدعم خلال الأشهر المقبلة، لبيعها بالأسعار المرتفعة الجديدة.
رهان كهذا، يمكن أن يحقق كذلك أرباحا سريعة وخياليّة خلال فترة لا تتجاوز الأشهر القليلة.
كما اختار بعض التجار اللجوء إلى شراء الأدوية والمستلزمات الطبيّة المدعومة،
قبل بيعها لاحقاً في السوق السوداء، التي بات يتم تسعير السلع فيها وفقاً لسعر الصرف في السوق الموازية.
وهكذا، أدت كل هذه الممارسة إلى مضاعفة أزمة شح الأدوية ومفاقمتها، كما زادت من الضغط على احتياطات المصرف المركزي.
الصدمة القاسية
اليوم، ثمة ما تقارب قيمته الـ180 مليون دولار من الأدوية المخزنة لدى المستوردين،
وهي أدوية جرى استيرادها دون توزيعها لعدم تأكّد المستوردين من إمكانية حصولهم على الدولارات
بالسعر المدعوم من مصرف لبنان لسداد ثمنها،
إذ أن بيعها بالسعر المدعوم سيكبّد المستوردين خسائر ضخمها إلى لم يسددوا ثمن
هذه الأدوية بدولارات مدعومة من المصرف المركزي. ولذلك، نصّت التسوية بين مصرف لبنان ووزارة الصحة
على توزيع هذه الأدوية في الوقت الراهن، مقابل تعهد مصرف لبنان بتأمين الدولارات المطلوبة لسداد ثمن هذه الأدوية حصراً.
علماً أن هذه الأدوية لا تعالج النقص الموجود في الأسواق بكامله، بل تؤمّن حاجة الصيدليات لبعض الأدوية المفقودة فقط.
أما في المرحلة المقبلة، فبات من الواضح أن هذه الدفعة ستكون آخر ما ستحصل عليه السوق من الأدوية المدعومة،
بعد أن أعلن مصرف لبنان بالفم الملآن أن دعم استيراد الأدوية والمستلزمات الطبية بات غير
ممكن في الوقت الراهن نظراً لمستوى الاستنزاف الحاصل في الاحتياطات.
ببساطة، المطلوب اليوم الاتجاه لرفع الدعم، مع ما سيعنيه ذلك من ارتفاع خيالي في أسعار
المختبرات الطبية وفاتورة الاستشفاء وثمن الدواء، لتفادي الاستمرار بسيناريو انقطاع كل هذه الخدمات،
أو تفادي سيناريو استنزاف الاحتياطات الالزاميّة في عمليات دعم الاستيراد. لكن في المقابل،
لن يتم مساءلة المصرف المركزي أو الحكومة عن سبب عدم وجود أي خطة لتفادي الوصول إلى هذه المرحلة منذ البداية،
وسبب حصول هذه الصدمة العنيفة اليوم بغياب أي إجراءات يمكن أن تمتص التداعيات المعيشيّة لهذه المرحلة.