اخبار محلية

المحامية مشغولة بالكشك ومدير الإنتاج بالبقر

المصدر: نداء الوطن

في بدايات الحرب اللبنانية، ومع الشلل الذي أصاب المؤسسات الرسمية والخاصة، باتت “العتالة” مهنة الجامعيين، وانتشرت بسطات الخضار في أحياء العاصمة، فتعرّف اللبنانيون إلى أساتذة ومحامين تركوا المعاهد وقصور العدل وقعدوا على الأرصفة لكسب رزقهم. وباتت التجارة، شغل من لا شغل له، ومن ابتسم له الحظ تمكّن من استدانة مبلغ محترم، وغامر بشراء تهريبة دخّان من عرض البحر، ومنها انطلق لبناء مؤسسات رائدة. ومن زمن الحرب في منتصف السبعينات إلى زمن آخر يصعب توصيفه بكلمات مهذبة.

مصروف من المصرف، بتعويض مقبول، يفتح “كيوسك” لتأمين مصروفه. دكتور بلا عمل، يزرع مانغا وأفوكا. وكيل سيارات يشتغل في ملحمة. مهندس يتكّس على الخفيف على سيارة “وفّيرة”. أستاذ رياضة يربي طيوراً وأرانب. مدرس لغة فرنسية “يترغل” في السوبر ماركت و”ينغل” خلف برّاد الأجبان. معلّم كهرباء يشتغل باطونجي. والصحافي ينصب زيتوناً وتفّاحاً. وكل مطرود من عمله يلمّ حديداً أو يبيع شيكات أو يهرّب بنزيناً … بالغالونات.

أيا كان اختصاصك المهني أنت مرغمٌ اليوم على تغيير مهنتك بحثاً عن قوتك وقوت أولادك اليومي، أو بأفضل الأحوال أنت مجبرٌ على العمل ليلا ونهاراً بوظيفتين أو ثلاث كي تبقى “واقفا على رجليك” لماذا؟ الجواب بسيط “لأنك لبناني تعيش زمن العهد القوي”.

من الإنتاج والتمثيل وأجواء المسرح تحوّل جورج باسيل (مجاز من كلية الفنون ـ الجامعة اللبنانية) الى تربية النحل والمواشي تاركاً وراءه خبرة سنوات طويلة في عالم الإنتاج التلفزيوني من دراما وبرامج منوعات ترفيهية، تنقّل في خلالها بين وسائل إعلام محلية وعربية عدة.

منذ خمس سنوات، اتخذ جورج قرار التغيير بعدما باتت مهنته الأساسية متعبة بمردود مادي غير كافٍ “أنا ابن ضيعة بالأساس ولدي الإمكانات لتحسين وضعي بمساعدة زوجتي وأولادي الأربعة”.

امتهن جورج وزوجته تربية النحل وإنتاج العسل كما تربية المواشي وإنتاج الحليب ومشتقاته، فخضعا لدورة في منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة “الفاو” للعمل بطريقة علمية وإنتاج العسل كما تصنيع الألبان والأجبان.

في مزرعة جورج، في سمار جبيل، أربعون قفير نحل وثماني بقرات تنتج ما معدّله مئة وعشرون كيلوغراماً حليباً يومياً إلا ان الارتفاع المتصاعد في سعر صرف الدولار أطاح أيضا بهذا القطاع حيث يتكبّد أصحاب المواشي خسائر كبرى نتيجة انعكاس سعر الدولار تحليقاً في أسعار الأعلاف. ويقول جورج “نحن متروكون من قبل الدولة التي قامت بتخصيص دعم للعلف على دولار 3900 أما اليوم وبعد رفع الدعم فقد بتنا ندفع اربعمئة دولار لطن العلف وهذه الكمية بالكاد تكفي البقرات الثماني لأسبوع واحد”.

أزمة زيادة أسعار منتجات الألبان والأجبان ومشتقات الحليب كافة مرتبطة ليس فقط بعدم توافرالعلف المدعوم إنما أيضا بكلفة الكهرباء المضاعفة وارتفاع اسعارالمحروقات وفقدانها. ناهيك عن تكاليف الفيتامينات واللقاحات والمطهرات ومعها التكاليف التشغيلية.

بين الصحافة والزراعة يبحث حنا خوري عن لقمة عيش كريمة يؤمّنها لوالدته وشقيقته بعدما لم يعد راتب واحد يكفي لسدّ نصف الحاجات الأساسية مع الغلاء الفاحش الحاصل.

يقطن خوري في منزل العائلة مع والدته وشقيقته العازبة في منطقة العقيبة الساحلية وهو يعمل في إحدى الإذاعات الإخبارية منذ نحو عشرين عاماً إلا ان الأوضاع الاقتصادية والمالية الصعبة أجبرته على البحث عن باب رزق آخر يمكّنه من الصمود ريثما تتحسّن الأحوال خصوصا ان المؤسسة التي يعمل لديها غير قادرة على مواكبة ارتفاع سعر صرف الدولار وغلاء الأسعار بحيث اقتصر تحسين الرواتب على مبلغ بسيط جداً تآكل من أسبوع إلى أسبوع. ويوضح حنا أن كلفة المعيشة باتت تستهلك ثلث راتبه بين “التحويجة” الشهرية من السوبرماركت للحاجات الأساسية من سلع غذائية وخضار وفواكه ومواد للتنظيف، ناهيك عن مصاريف البنزين من العقيبة الى بيروت وهذه الأزمة هي الأخرى معاناة بحد ذاتها.

القدرة الشرائية المتدنية جدا فرضت على خوري التركيز على القوت اليومي فقط “صرنا عايشين حتى ناكل بدل ما ناكل لنعيش” فالأسعار ترتفع مع كل زيادة على سعر صرف الدولار لكنها لا تنخفض مع تراجعه وان بشكل محدود، ما يجعل الغلاء مضاعفاً والأعباء أكبر.

لكل هذه الأسباب كان لا بدّ من التفكير بتحوّل جذري يقول حنا، يتيح لي إعالة العائلة من دون مراكمة الديون “على الأقل أقوم بتوفير الخضار والفاكهة كاكتفاء ذاتي أوّلا، وأبيع ما تبقى من المحصول”.

في محيط المنزل، أرضٌ تقارب مساحتُها الألفي متر قام حنا باستبدال شجر الزيتون فيها بشجر الأفوكا والمانغا والقشطة للاستفادة منها باعتبار أن ثمنها مرتفع في الأسواق حالياً ومحصولها وفير، كما ان هذه الأشجار تتيح زراعة البقوليات في أسفلها حيث زرع الحمص واللوبية والبندورة والخيار والذرة.

ومع بدء فصل الصيف أقدم حنا خوري على زراعة شجر الحامض الضروري لكل بيت، إضافة الى البطيخ والشمام والكوسا والقرع والباذنجان والليف وهي منتجات غالية الثمن في السوق، على سبيل المثال بلغ سعر الليفة الكبيرة الحجم 30 الف ليرة. كذلك زرع فاكهة الفريز والأكي دنيا وتشكيلة من الحشائش كالنعناع والبقدونس والبقلة والروكا والخس وغيرها.

وفي عملية حسابية سريعة يقول حنا ان المردود الأسبوعي يقارب ثلاثة ملايين ليرة تتوزّع بين استهلاك منزلي (مليون وخمسمئة ألف ليرة)، رواتب عمال (خمسمئة ألف ليرة)، ومصاريف مبيدات للحشرات وتقوية الشتول (خمسمئة ألف ليرة).

الى جانب الأرض الزراعية، خصّص حنا قسماً من أرضه يقدّر بنحو مئة متر مربع مسيّجاً لتربية الدجاج “بدأنا منذ شهرين بخمس عشرة دجاجة تبيض ما بين ثماني الى ثلاث عشرة بيضة في اليوم الواحد، ثم رفعنا العدد الى أربعين دجاجة بلدية”، ويلفت الى أن سعر البيض هو الآخر ارتفع بشكل دراماتيكي بحيث بلغ سعر البيضة البلدية الواحدة الفين وخمسمئة ليرة وهي مطلوبة جداً في أيامنا هذه خاصة أن الأطباء نصحوا بالبيض من ضمن الأغذية المقويّة للمناعة البشرية.

وفي المزرعة أيضا، عشرة طيور فرّي، تُباع العشرون بيضة منها بثلاثين ألف ليرة.

وبحسب النقابة اللبنانية للدواجن فإن قطاع الدواجن يشغّل ما لا يقل عن عشرين ألف عائلة تعتاش منه وهو يلبّي احتياجات السوق المحلية من البروتين ما يزيد من زخم مطالبة الدولة بإعادة دعم هذا القطاع الذي لا تتخطى حاجياته مئة وعشرين مليون دولار سنوياً خشية المزيد من الارتفاع في التكلفة الإنتاجية والأسعار. وفي حال استحالة استمرارية الدعم كما كان، لا بدّ من أن تتّخذ الدولة إجراءات حماية عبر تعديل التعرفة الجمركية بما يوازي قيمتها الفعلية التي كان معمولاً بها قبل انهيار العملة الوطنية.

تراجع القدرة الشرائية نتيجة التضخّم الحاصل في البلد، دفع بالمحامية ش.ح. وهي أم لفتاتين تعمل في أحد مكاتب المحاماة في المتن، الى البحث عن مصدر رزق جديد لسدّ النقص الكبير الذي طرأ على راتبها. فاختارت صناعة المونة والغذائيات المنزلية التي اعتادت أن تحضّرها لعائلتها وقررت ان تمتهنها جدياً “لطالما شجّعني جيراني وأصحابي على تطوير المونة وبيعها لكنني لم أكن على استعداد لذلك بل كنت أكتفي بتحضيرها لعائلتي”… واليوم باتت المونة باب رزق أبّا عن جدّ بدءاً من كبيس الخيار والمقتي واللفت ومكدوس الباذنجان، مروراً بربّ البندورة والمربيات المتعددة وصولاً إلى توضيب بعض أنواع الخضار في الثلاجات كاللوبياء والبازيلا والأرضي شوكي والجزر وورق العريش والملوخية وغيرها.

وهنا أيضا آلية التسعير تخضع لسعر صرف الدولار في موعد البيع “لا يمكن تحديد سعر ثابت لأي منتج بعد اليوم” تقول صاحبة المونة البيتيّة التي اعتمدت تخصيص أوان زجاجية “مراطبين” بأحجام مختلفة صغيرة ومتوسطة وكبيرة بما يخفّف التكاليف على الزبائن “وكل واحد عقدّو”.

اللبنانيون يدركون جيدا أن البلد يمرّ بأزمة مالية وانهيار اقتصادي شامل وهم على استعداد لمواجهة هذا التحدي في هذه المرحلة الانتقالية، كلٌ على طريقته لكنهم يتساءلون عن دور المسؤولين المفترضين عن أمن واقتصاد هذه الدولة وهذا المجتمع الذي يصرخ ويكرّر الصرخة وما من مجيب!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com