حنطور جدّي في الخدمة مجدّداً… “تاكسي” بأسعار رخيصة
رمال جوني – نداء الوطن
حنطور جدّي عاد، هذه المرة أشبه بـ”تاكسي” لنقل الركاب. ففي الوقت الذي يذلّ فيه الناس على محطات البنزين، كان هناك من يعيد الحنطور للخدمة، ويتّخذه فرصة عمله لمواجهة الازمات المعيشية الضاغطة.
يعبر حنطور محمد في شوارع النبطية، لافتاً الانتباه اليه، فالناس لم تعتَد الحنطور، وهو كناية عن عربة خشبية مربوطة الى حصان ما اثار استهجان كثر “تاكسي حنطور”. ففيما توقف معظم “شوفرية التاكسي” عن العمل لعدم توفر البنزين، كان محمد يطرح حنطوره بدل سيارة تاكسي، يجذب اليه الركاب ممن تسابقوا للركوب في وسيلة غير مألوفة، تنقلهم في الهواء الطلق الى قراهم، بأسعار رخيصة، وتعرّفهم في الوقت عينه على تفاصيل المدينة وقراها.
لا تفارق الابتسامة ثغر محمد، فهو سجّل هدفاً في مرمى الازمة، مقدّماً حلاً لمشكلة تنقّله وتنقّل الناس ممّن تخلّوا عن سياراتهم، معتبراً أن وسيلته غير المألوفة ستكون الوسيلة الأنجح في المقبل من الايام، “يكفي أنني لن أكون بحاجة للوقوف ساعات على محطات الذل، ولن اتكبّد خسائر مالية في اصلاح أعطاله، يعني تاكسي وفّيرة عالجيبة”.
في شوارع النبطية يعبر حنطور محمد مُطلقاً العنان لصوته منادياً “تاكسي تاكسي”،
حاملاً ركابه باتجاه النبطية الفوقا، فارضاً هيبته، اذ وجد في حنطور جدّه المنسي فرصة عمل له،
قرر أن يعمل “تاكسي حنطور” حيث لا حاجة للبنزين ولا للوقوف ساعات في طوابير الذلّ، اتّخذ قراره ومضى في تنفيذه، مشرّعاً الباب على عودة كل ما هو قديم،
فاليوم الحنطور وغداً الحمار وهلمّ جرّا من وسائل نقل سيلجأ اليها المواطن في زمن فقدان المحروقات وارتفاع أسعارها.
نعم، في عصر التكنولوجيا والسيارات الحديثة، عاد الناس للحنطور كوسيلة نقلهم المشروعة،
بعدما بات الصعود في سيارة اجرة يكلف مبلغاً كبيراً بعد رفع التعرفة التي باتت 20 ألف ليرة من حاروف مثلاً الى النبطية،
أي 40 ألف ليرة في اليوم، وهو مبلغ ليس بمقدور ما دون الحد الادنى للاجور تحمّله،
وهذا ما حدا بمحمد لاطلاق حنطوره، ضارباً عصفورين بحجر واحد: فرصة عمل له وابتكار في زمن القلة..
يعبر محمد قرب محطة محروقات حيث طوابير الذل على مد العين،
يضحك بسرّه، فهو ارتاح من هذا العناء، يعبر بثقة حيث كل المنتظرين يتأمّلونه بحسرة “نيالو مش مضطر ينطر على المحطة”.
يملأ حنطوره بالركاب ويمضي في طريقه نحو القرى، غير آبه بـ”شارج” البنزين
ولا بأعطال السيارة ولا حتى بإنفجار عجلة دولاب وصرخة التصليح التي تحتاج بنكاً هذه الايام.
ما يحتاجه فقط القليل من الاعشاب والتبن الذي يؤمّنه من حصاد القمح.
يرى محمد بوسيلته الغريبة والقديمة في آن فرصة للانقضاض على جشع التجار ووقف فسادهم،
ويعتبرها نافذة جديدة للإطلالة على اعمال غير مألوفة. لا ينكر أن الناس سجّلت استغرابها من وسيلته الجديدة للنقل،
غير انها هنأته على جرأته بكسر “تابو” البنزين والسوق السوداء.
وكانت الفكرة لمعت برأسه أثناء انتظاره لساعات في طوابير الذل “لماذا لا اوقف هذا الذل؟
فكّرت ملّياً وتذكّرت قول والدي: الحنطور يا إبني رح يرجع وهيدي المرة وسيلة نقل، فقررت…
الاوضاع الاقتصادية تشتدّ وطأتها على الناس، وبات من الصعب تأمين البنزين بعد ارتفاع ثمنه
هذا ناهيك عن رفع معظم التاكسيات راية التوقف عن العمل بسببه”.
في الطريق يشقّ حنطور محمد طريقه، صوت حوافر خيله تسبقه كما يتسابق الشبان لصعوده،
فالناس بطبيعتها تعشق غير المألوف يكفي أنه صديق للبيئة وتتعرّف من خلاله على تفاصيل الأمكنة،
وبالأخص فإنك تهرب من ضجيج المدينة نحو القرى بوسيلة نقل غير اعتيادية.
سهولة يشقّ طريقه نحو النبطية الفوقا وكفرتبينت، فحركة السيارة أقل من عادية،
بالكاد تتحرك بعدما فضّل كثر ركنها جانباً، وحده محمد يتحدّى الازمة بحنطوره، يرسم ابعاد مستقبل لم
يكن في حسبان احد، يقدّم نموذجاً لكل شاب “ما تستسلمو للواقع”، ويردّد “النزهة بالحنطور اجمل وأرخص، يكفي أنك لا تحتاج للبنزين”.
خرج محمد عن المألوف، اعاد للحنطور عزّه، ودفع بإتجاه عودة وسائل النقل القديمة،
طارحاً حلولاً للازمات الخانقة، رافضاً الاستسلام لمحتكري البنزين والدواء والمكيانيكي،
معتبراً أن ما طرحه اليوم من وسيلة نقل جديدة ما هو الا بداية على سكة الحل،
“فاذا كانت السلطة أعادتنا بسياستها للعصر الحجري، فإننا عدنا لعصر جدودنا وعدنا للحنطور”.