اقتصاد

الأموال المهرّبة: مسرحيات لا تنتهي

“درج”:  علي نور الدين – صحافي لبناني

بغياب أي تحقيق قضائي جدّي حول مصير الأموال المهرّبة، وفي ظل اقتصار صلاحيّة رفع السريّة المصرفيّة لهذه الغاية بهيئة التحقيق الخاصّة، التي تمتنع عن إجراء أي تحقيق بهذا الملف، يصعب تحديد رقم دقيق لحجم الأموال المهرّبة أو هويّة المستفيدين الفعليين منها.

خلال الأسبوع الماضي، باشرت لجنة المال والموازنة اللبنانية العمل على إنجاز مسودّتها الأخيرة من مشروع قانون استعادة الأموال المهرّبة بعد 17 تشرين الأوّل 2019، فأقرّت ثلاثة بنود في المسودّة، وأرجأت الاتفاق على آخر بندين منها لجلسة اللجنة يوم الأربعاء المقبل. وبذلك، أصبح من المرتقب أن تُحال النسخة النهائيّة لمشروع القانون إلى اللجان المشتركة في منتصف الأسبوع المقبل، تمهيدًا لإحالتها إلى المحطّة الأخيرة في الهيئة العامّة لمجلس النوّاب. مع الإشارة إلى نطاق مشروع القانون يشمل كل من يقوم بخدمة عامّة ويتقاضى أموالاً عامّة بهذه الصّفة، وجميع مدراء ومحامي المصارف وكل من يحمل أسهماً تفوق قيمتها 5% من رساميل مصرف ما، ليفرض على هؤلاء إعادة جميع الأموال النقديّة التي تتخطى قيمتها 50 ألف دولار أميركي والتي قاموا بتحويلها إلى خارج لبنان بعد 17 تشرين الأوّل 2019.

مسرحيّة القانون

ينطوي ما تقوم به لجنة المال والموازنة على جملة من المفارقات، التي توحي بأنّ ما يجري لا يتعدّى حدود المسرحيّة الشعبويّة قبل أشهر من الانتخابات النيابيّة، من دون أن يستهدف القانون استعادة هذه الأموال فعلًا. المفارقة الأولى، تكمن في أن اللجنة التي تدرس مشروع القانون هي اللجنة نفسها التي تقاعست بعد تشرين الأوّل/اكتوبر 2019 عن العمل على قانون الكابيتال كونترول، الذي كان من شأنه أن يضع إطاراً تشريعياً يحول دون تهريب الأموال منذ البداية، ودون الاضطرار للبحث اليوم عن سبل استعادة هذه الأموال. بمعنى آخر، ثمّة ما يكفي من أسباب للإعتقاد بأن النوّاب الذين يعملون على مشروع القانون، من مختلف الكتل النيابيّة، لم يمتلكوا النيّة منذ البداية للحفاظ على الأموال التي يدّعون ملاحقتها اليوم. 

المفارقة الثانية، تكمن في وجود قوانين تنص على عقوبات لإساءة الإئتمان والاستفادة من الوظيفة للإطلاع على المعلومات وتحقيق كسب غير مشروع، كقانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. وهذه الجرائم هي تحديدًا الأفعال التي يتعامل معها مشروع القانون الجديد، أي استفادة القيمين على المصارف والشأن العام من مواقعهم الوظيفيّة لتهريب أموالهم بشكل استنسابي، في مقابل حبس أموال سائر المودعين. ولهذا السبب، كان من الأجدر الشروع بتطبيق البنود القانونيّة الموجودة أساسًا، وتعديلها عبر وضع آليّات تطبيقيّة تكفل تنفيذها، بدل العمل على قانون جديد بمفعول جزائي رجعي، أي ببنود تجرّم أفعال حصلت في الماضي، وهو ما يمكن أن يمثّل ذريعة للطعن بدستوريّته والتملّص من تطبيقه من قبل المصارف.

ببساطة، الأزمة الفعليّة لم تتطلب الحاجة إلى هذا الإطار القانوني الجديد، بوجود الأطر القانونيّة الكفيلة بملاحقة هذه الأموال. بل كمنت الإشكاليّة الأساسيّة -التي حالت دون تتبّع الأموال المحوّلة- في ستار السريّة المصرفيّة وحصر الوصول إلى داتا التحويلات بهيئة التحقيق الخاصّة، التي يرأسها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة نفسه، والتي تقاعست طوال الفترة الماضية عن التعامل بإيجابيّة مع أي طلب قضائي للاستحصال على معلومات حول الأموال المهربّة. 

ولذلك، وبدلاً من التعامل مع هذا العائق الإجرائي عبر وضع الأطر التشريعيّة الكفيلة بتجاوز عقبة هيئة التحقيق الخاصّة، وفرض تطبيق القوانين النافذة اليوم، يلجأ مجلس النوّاب إلى وضع قانون سيواجه العقبة نفسها التي واجهتها محاولات ملاحقة الأموال المهرّبة سابقًا، مع إضافة عائق آخر هو الإشكاليّات الدستوريّة التي تحيط بالتشريع بمفعول رجعي

وعلى أي حال، تبقى المشكلة الأساسيّة في مشروع القانون تركه جميع الآليّات التنفيذيّة مربوطة بالمراسيم التطبيقيّة التي يفترض أن تضعها الحكومة، بمبادرة من وزيري الماليّة والعدل، وبالتشاور مع حاكم مصرف لبنان. وبذلك، تصبح ثغرة مشروع القانون الأبرز عدم تضمينه أدوات فرض إعادة هذه الأموال، خصوصًا أن ربطه بالمراسيم التطبيقيّة كفيل بجعله غير قابل للتنفيذ بمجرّد عدم إصدار هذه المراسيم، تمامًا كما جرى بالنسبة للكثير من القوانين “الإصلاحيّة” التي تم إقرارها سابقًا. كما انطوى مشروع القانون على ثغرات أخرى، من قبيل عدم معالجة مسألة السريّة المصرفيّة، وعدم التطرّق إلى آليّات التنسيق مع الجهات الخارجيّة لتتبّع مآل الأموال المهرّبة ووجهتها الأخيرة. 

المصارف تستنفر…وتستفيد من ثغرات القانون

رغم عاهات القانون الكثيرة، كان مجرّد التلويح بالعمل على استعادة الأموال المهرّبة كفيلاً بإثارة حفيظة جمعيّة المصارف، وهو ما ظهر بوضوح في بيانها الأخير الذي صدر يوم الخميس الماضي. بيان الجمعيّة لم يشر بشكل مباشر إلى مشروع القانون، لكنّه تحدّث بمواربة وبالتلميح إلى “إثقال المصارف بالتزامات قانونيّة ونظاميّة لا طاقة لها على تحمّلها”، ومشيرًا إلى اللغم الأهم الذي ينطوي عليه مشروع القانون، عبر الحديث عن “خطورة التشريع جزائيًّا بمفعول رجعي وفقًا لعدد من المشاريع المطروحة، في مخالفة للدستور”. أمّا أخطر ما في بيان الجمعيّة، فكان نوعيّة الابتزاز الذي مارسه البيان في وجه أي محاولة لملاحقة هذه الأموال، من خلال التلويح بإقفال القطاع المصرفي، وعزل لبنان عن النظام المالي العالمي عبر وقف التعامل مع المصارف المراسلة بشكل تام. 

بهذه الطريقة، كان بيان الجمعيّة يستفيد من اللغم الدستوري الذي وضعه المجلس النيابي في مشروع قانون استعادة الأموال المهرّبة، والذي يكمن في التشريع بمفعول رجعي، بدل الارتكاز على القوانين الموجودة والتي تجرّم فعل التهريب الاستنسابي للأموال. وفي الوقت نفسه، كانت الجمعيّة ترفع الصوت تمهيدًا لعرقلة تنفيذ القانون في المستقبل، من زاوية عدم دستوريّته، ومخاطره على القطاع المصرفي وعلاقته بالمصارف المراسلة. وبهذه الطريقة، وبدل أن تكون جمعيّة المصارف عرضة للملاحقة القضائيّة نتيجة عمليّات تهريب الأموال الاستنسابيّة التي سهّلتها إداراتها، بما تنطوي عليه هذه العمليات من مخالفات للقوانين القائمة أصلّا، باتت الجمعيّة اليوم في موقع مواجهة مشروع قانون هشّ، يحمل في طيّاته أسباب فشله وخصوصًا بغياب الأدوات الكفيلة بفرض تنفيذه.

وفي الحالات كلها، كان استنفار جمعيّة المصارف، على خلفيّة تناول مسألة تهريب الأموال في المجلس النيابي، مجرّد دلالة على وجود هذه الأموال المهرّبة، وعلى نطاق واسع كفيل “بإثقال المصارف بالتزامات لا طاقة لها على تحمّلها” على حد قولها، في حال فرض استرجاع الأموال التي هرّبها كبار المصرفيين والسياسيين. وهذه المسألة وحدها كفيلة بإدانة المصارف بممارسة الاستنسابيّة بين المودعين خلال الفترة التي تلت 17 تشرين الأوّل/اكتوبر 2019، وهو ما أدّى إلى تفاوت توزيع الخسائر بين كبار المودعين النافذين وأصحاب الودائع الذين لم يتمكنوا من تهريب أموالهم إلى خارج النظام المصرفي.  

مسرحيّات سابقة

لم يكن مشروع القانون المطروح في المجلس النيابي المسرحيّة الأولى التي يتم عرضها أمام الرأي العام، لاستعراض محاولة استعادة الأموال المحوّلة إلى الخارج. المسرحيّة السابقة، كانت من إخراج حاكم مصرف لبنان نفسه، يوم أصدر التعميم 154، الذي طلب من المصارف “حثّ” عملائها الذين قاموا بتحويلات تفوق قيمتها ال500 ألف دولار بعد 1 تموز 2017 على إيداع ما نسبته 15% من قيمة هذه التحويلات في حساب خاص، وتجميد هذه القيمة لغاية 5 سنوات. كما رفع نسبة الإيداع المطلوب إلى 30% من قيمة الأموال المحوّلة للسياسيين ورؤساء وأعضاء مجالس إدارات المصارف، وكبار المساهمين فيها وأعضاء إداراتها التنفيذيّة العليا. 

في تلك المرحلة، تم استعراض التعميم كمحاولة لإعادة جزء من الأموال المحوّلة إلى

الخارج قبل حصول الأزمة المصرفيّة وبعدها، كما تم استعراضه كخطوة عادلة نظرًا لزيادة نسبة الإيداع المطلوب

من قبل السياسيين والمصرفيين، مقارنةً بسائر المودعين. لكن في واقع الأمر، ونظرًا لاقتصار موجبات التعميم على “الحثّ”،

دون تضمينه أي إجراءات تفرض إعادة هذه الأموال، ودون أي يترافق مع أي خطوات تضغط باتجاه امتثال المستفيدين

من هذه التحويلات لهذا التعميم، تحوّلت العمليّة بأسرها إلى قنبلة صوتيّة لا أكثر، ولم يفلح التعميم بإعادة أي نسبة

من الدولارات التي تم تحويلها منذ 2017. بل ويمكن القول أن هشاشة مندرجات التعميم منذ البداية،

واقتصاره على مبدأ حث العملاء فقط، أوحت بأن مصرف لبنان لم يمتلك الجديّة المطلوبة في عمليّة

فرض إعادة هذه الدولارات إلى النظام المصرفي. مع العلم أن مصرف لبنان لم يبادر حتّى إلى إصدا

ر تعميم أو قرار يمنع تهريب سيولة إضافيّة من النظام المصرفي، بالتوازي مع إصدار ذلك التعميم الشكلي

المسرحيّات الأخرى في هذا الملف تحديدًا كانت من صنع القضاء اللبناني، الذي راسل

السلطات السويسريّة في أواخر العام 2019 للسؤال عن تحويلات مشبوهة صدرت من لبنان باتجاه المصارف السويسريّة،

رغم أن تتبّع هذه التحويلات كان ممكن عبر الكشف عن تفاصيل هذه التحويلات من المصارف اللبنانيّة نفسها،

ورغم علمه أيضًا أن السلطات السويسريّة لن تبادر إلى تقديم أي معلومات ما لم يشر الطلب

بوضوح إلى هويّة الحسابات المستهدفة بالسؤال ونوعيّة الشبهات المحيطة بها. وفي مراسلات أخرى،

كانت تحقيقات القضاء حول الأموال المهرّبة تحتكم إلى تأكيدات المصارف نفسها، لجهة عدم وجود تحويلات

تدعو للشك من ناحية مصدرها أو قانونيّتها أو إمكانيّة انطوائها على عمليّات تبييض أموال.

بمعنى آخر، كان القضاء يحتكم إلى تصريحات المتهم نفسه، للدلالة على

براءته من تهمة الاستنسابيّة في تحويل الأموال لمصلحة كبار النافذين.

حجم الأموال المهربة

بغياب أي تحقيق قضائي جدّي حول مصير الأموال المهرّبة، وفي ظل اقتصار صلاحيّة رفع السريّة المصرفيّة

لهذه الغاية بهيئة التحقيق الخاصّة، التي تمتنع عن إجراء أي تحقيق بهذا الملف، يصعب تحديد

رقم دقيق لحجم الأموال المهرّبة أو هويّة المستفيدين الفعليين منها. لكنّ مقارنة حجم الانخفاض باحتياطات

مصرف لبنان سنة 2020، بحجم الأموال التي

ذهبت للدعم وتمويل نفقات الدولة بالعملة الصعبة، يظهر أن ثمّة 7.87 مليار دولار من الأموال

التي خرجت من احتياطات مصرف لبنان دون أن يتضح مآلها الفعلي، ما يشير إلى ارتباطها بشبهة تهريب الأموال.

مع الإشارة إلى أن هذا الرقم يقتصر على الأموال التي تم إخراجها من احتياطات مصرف لبنان خلال سنة 2020،

دون أن يشمل ما تم تهريبه خلال الأسابيع الأولى من الأزمة في أواخر العام 2019، أو خلال العام 2021،

ودون أن يشمل التحويلات التي أخرجتها المصارف من حساباتها لدى المصارف المراسلة والتي لا تمر بحسابات مصرف لبنان.

كل ذلك يشير إلى ضخامة الأموال التي تم تهريبها خلال فترة الأزمة، والتي تركت أثرها بشكل كبير على حجم الاحتياطات

الموجودة في مصرف لبنان وسرعة تآكلها، وقدرة المصرف المركزي على التدخّل في عمليّات الدعم وضبط

عمليّة تعويم سعر الصرف. وبدل التعامل مع هذه الوقائع كأفعال جرميّة يفترض أن تتم ملاحقتها بجديّة وصرامة،

وبعد تذليل العقبات التي تضعها هيئة التحقيق الخاصّة أمام كشف المعطيات المرتبطة بها،

بات هذا الملف عرضة للمزايدات والاستعراضات الشعبويّة، تمامًا كما يجري في لجنة المال والموازنة بالنسبة

إلى مشروع قانون استعادة الأموال المهرّبة. وبات البعض يستسهل الكلام عن تهريب الأموال من المصارف،

كما فعل النائب بلال عبد الله، حين أشار إلى أن النائب وليد جنبلاط أخرج 500 مليون دولار من المصارف،

بحجة إنفاقها في المساعدات الاجتماعيّة.   

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى