اخبار محلية

على أي محطة دم فلسطين

على أي محطة دم فلسطين

بتفاوتٍ كبير ينظرُ اللبنانيون الى الدمِ الفلسطيني. هناكَ من يرى فيه كفّارَةً لغسلِ الدمِ اللبناني وهؤلاء يعيثونَ في الحربِ اللبنانيةِ ذاكِرَةً وتذكُّرًا وكأنما الحقباتُ في التاريخ نقلٌ ونسخٌ تحوّلُ الأحقادَ إلى شعلةٍ لا تنطفئ. هؤلاء أيضًا ربما فقدوا شهيدًا أو حوّلت الحربُ حياتهم إلى منعطفاتٍ كسرَتْ فيها أحلامَهم وهناءَ عيشهم.

وهناكَ من يرى هذا الدمَ مشهدًا مِن مشاهِدِ دورِ السينما في صالة الشرق الأوسط. لا فلسطينَ تهمُّهُ ولا شهداؤها. الفيلمُ مثيرٌ والمشاهدونَ يتحضَرونَ لحلقةِ مناقشةٍ حول مَن هو البطلُ ومَن هو الشريرُ فيعودُ كل مُشارِكٍ بعد الفيلم للتَّعليقِ على ما يعرفه عن فلسطين فيستَشهِدُ بالكتبِ السماويةِ ليدحضَ رأيَ الآخَر أو يؤيدَ رأيه. استشهادُ الفلسطينيين يقابلُه استشهادٌ بقولٍ أو نظرية. فلسطين من هذه الزاوية وطنٌ مطروح للنِّقاش ومثيرٌ للجدلِ العقيم. بين أرضِ ميعاد وأرضٍ تُستعاد الفيلمُ جميلٌ والإخراجُ متقن.

وهناك أيضًا من يرى الدَّمَ الفلسطينيَّ من زاويةِ أنَّ ديني أقوى من دينِك. كل ما ومَن يأتي وينصرُني على اعدائي في الدين هو صديقي وحليفي. بالطبع تتحولُ مسيحيتي من هذه الزاوية الى ديانةِ حقٍّ والاسلامُ الى ديانةِ باطلٍ والعكسُ صحيح وتتحوّلُ اليهوديةُ الى ديانةِ موعدٍ وميعادٍ وبالتالي يصبحُ الدمُ الفلسطينيُ ضريبةً طبيعيةً ومقبولةً يدفعُها المسلمُ من دمِه يتفرّجُ عليها المسيحيُّ واليهوديُّ معاً. الاوَّلُ ظنًا منه أن اليهودَ لم يقتلوا المسيحَ يومًا والثاني ظنًا منه انَّ دمَ الفلسطينيينَ لن يزهرَ أبدًا.

من يفهمُ فلسطين نوعانِ من الناس. مَن يعيشُ في فلسطين مِن مسيحيينَ ومسلمينَ يقتلُهُم الجلّادُ كلَّ يومٍ على ابوابِ كنيسَةِ القيامة وأبوابِ المسجد الأقصى. هؤلاء امتزجتْ فيهم المسيحيةُ بالإسلامِ فتحوَّلَتا إلى ديانةٍ واحدةٍ هي ديانةُ الله الذي يحبُّ الإنسانَ والانسانيةَ ويرعى الحقَّ والعاملون من أجله. الله الذي وبحسبِ العقيدةِ المسيحيةِ قتلَ اليهودُ ابنَهُ فيصفحُ عن قاتليه هو نفسُهُ الله الذي يبشّرُ القاتلَ بالقتلِ ولو بعدَ حين. العدالةُ الأرضيةُ لغةُ الله عبرَ البشر قبل حلولِ العدالةِ السماوية ولذلك نقول الله لا يراشِقُ الناسَ بالحجارة.

النوع الثاني فلسطينِيٌّ في انسانيَّتِه .لا حاجةَ لك ان تعيشَ على أرضِ فلسطينَ لتكون فلسطينيًا. فلسطينُ ليست جنسيّةً فحسب لأنها جنسُ الإنسانية. هذا النوعُ يمكنُ ان يكونَ لبنانيًا او سوريًا او عراقيًا او سعوديًا او إيرانيًا او أوروبيًا او اميركيًا وأن يحمل الجنسيةَ الفلسطينيةَ في آن. جنسيّةٌ من دونِ جوازِ سفر. من دونِ بطاقةِ لجوء. من دونِ وثيقةِ سفر. من دون مسقطِ رأسٍ محدد في فلسطين. لا تكتملُ جنسيتك الانسانية من دون انتمائك الكامل الى فلسطين. وحدُه هذا الانتماءُ لا يحتاجُ الى قانونٍ خاص يتيحُ لك حيازةَ جنسيتينِ في آن. مع فلسطين يمكن ان تكونَ لبنانيًا منذ أكثر من عشرِ سنواتٍ وفلسطينيًا منذ أكثر من ألفينِ وثلاثةٍ وعشرينَ سنةٍ على الأقل.

الانتماءُ الى فلسطين لا يتناقضُ مع رقمِ سجلِّكَ في البلدةِ التي ترعرعتَ فيها. ما ان تقبلَ انَّ فلسطين ليست اسرائيل تصبحُ فلسطينيًا في قلبِكَ وضميركَ وانسانيتك. ما ان تقبلَ ان اسرائيل ليست فلسطين تكتملُ لبنانيَّتُكَ لأن كلَّ مأساةِ لبنان المتناسلةِ منذ ثمانينَ عامًا مردُّها ان فلسطين يُرادُ لها ألا تكون سوى اسرائيل. سُمِحَ للسرطان ان يتمدَّدَ دون ان يُستأصَلَ فانتشرَ فينا.

عن هذا الدمِ مؤخرًا قبل أن يتحولَّ الى فيلمٍ للمناقشةِ حول كيس بوشار. دمٌ بفئة جديدة. فيه من المسيحِ والحسين وكلِّ شهداءِ الكنيسةِ والمسجد. فيه كلُّ دويٍ متفجّرٍ يصفعُ سكوتَ العالم. فيه جثامينُ الاطفالِ والنساءِ والشيوخِ وجثامينِ المقاومينَ في فلسطين وقد تحوَّلَتْ الى ميكروفونات اعلى من صفير الأف 35. دمُ فلسطين أقوى من محطات التلفزة ونشرات الأخبار. الدمُ الفلسطيني مبثوثٌ على محطاتٍ فوق فضائية. تلفزيونُ الله يتكفَّلُ بتكريمه. دمٌ كمثلِ هذا الدم لا بد أن يحرر فلسطين من الكذبة.لا بد أن يحرر فلسطين من النَّكبَة.

ليبانون ديبايت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى