عن الطفلة هند رَجَب قبلَ دَفنِها
عن الطفلة هند رَجَب قبلَ دَفنِها
“ليبانون ديبايت”- كتبَ روني الفا
ماتَت هِند رَجَب. كانَ بإمكانِها أن تَلهو بالدُّمَى. ألهاها الدّمُ. في المَركَبَةِ التي كانت تضمُّ أحِبّاء لَها لَم يُجِبها أحد لإثنَتَي عَشَرَ يَومًا. هم أيضًا كانوا يلعَبونَ مع دِمائِهِم. كانت غزَّةَ قبل الموت مدينةَ ألعابِ هِند. تختَزِنُ في عَينَيها الجَميلَتَين كلَّ المَشاوير. اضطجَعَ جَسَدُ الطفلةِ الصّغيرُ في المَقعَدِ الخَلفي للمركَبَة ينتَظِرُ سيارَة الإسعاف. إسعافٌ كانَ يطلبُ إسعافًا.
ماذا تَراها شَعَرَت هِند مدّةَ اثنَتَي عَشَر يَومًا في مركبَةٍ صارَت بِطلقَةِ دبّابَةٍ سيّارَةً لِنَقلِ المَوتى؟ كَم صَرخةً أطلَقَت؟ كَم رسالَةً بَعَثَت؟ كَم مرَّةً زارَها رَجاءُ الإنقاذ؟ قليلًا وتأتي النّجدَة. قليلًا وأعودُ إلى حضنِ أمّي. في غزّةَ يعيشُ الأطفال على أملِ العَودِةِ من المَدرسَة الى البيوت. يعودونَ إلى المَثاوي.
توزّعَت شَظايا الحِقدِ في جسَدِ هند. يَدُها. رِجلُها. ظَهرُها. ما يَكفي لتَنزِفَ ببطءٍ حتَى المَوت. أن تَرَى طفلةُ السَنواتِ السِتّ قِواها تَخورُ شيئًا فَشيئًا لتفقِدَ قدرتها حتى على التنهّد. الله يا الله ما هذا الحزن الذي يعتصِر الروح. أن يَترُكَ لك العدوُّ وعيَكَ لتشهَدَ وحيدًا على موتِ طفولَتِك.
يدٌ كانَت تَعتَني بالرِّجل فتعطّلَت بالنّزف. رِجلٌ كانت تعتني بأُختِها فشُلَّت وتيبَّسَت. ظهرُ هِند كان ينتظرُ سواعِدَنا العربيَّة. بدلَ مدِّ أيدينا لِهِند أدَرنا لها ظهورَنا. عشرات الدول العربيَّة تابَعَت مأساةَ هِند. كأني بِها تشاهِدُ آخِرَ المسلسلات التركيَّة. كم دمعةً ذُرِفَت على هند؟ دموع أمّها ذُرِفَت نيابةً عَن دموعِ تماسيح العروبة.
تفرّستُ بِصُوَرِ هند وهي على قيدِ الطفولة. أخبرتني عَيناها أنها كانت تحلمُ بعمر المراهقة. كل دُماها في البيت كانت تَشي أنها ستصير شابّةً فلسطينيَّةً حلوة. ربما أرادَت أن تكون ممرّضَة أو معلِّمَة أو منسِّقَة زهور الله أعلَم. في غزّةَ يقفز الموت إليك من الطفولة الى القبر من دون اجتيازِ المراحِل. الأعمار في غزّة ولادة على شَرشَف هو نفسه شرشفُ الكفن.
انضَمَّت هِند الى أكثَر من عشرة آلاف طفلٍ صاروا طيورَ الجنَّة. من يعتني بهم جميعًا قبل حلولِ يوم القيامة؟ من يطعمُهم سوى ابراهيم وسارة؟ من يفتح لهم أبوابَ الفردوسِ سوى بطرس؟ أبوهم السماوي يحمي طفولتهم وأمومَةُ السّماء ترضِعُهُم حليبَ الإنتظار الطويل. تنام هِند على رجاء القيامة.
عادت هند الى تراب غزّة. تنتظر تبادل الأسرى. هي لن يتبادلها أحد. ستبقى حيث هي وستنمو فوق ضَريحِها مليون أقحوانة. الأقحوان في غزّة يشرب من دماء الأطفال. باقاتُها تتفتّح على بقاياهم. غدًا تقطفها الأيدي لتوضَعَ في مزهريّات الصلاة. جزءٌ من هند سيوضَعُ بين صفحات الكتب التي ستكتب فلسطين. هند أقحوانة فلسطينية سَتُبقي الحلمَ عَطِرًا. ليسَ صَحيحًا أن هندًا باتت رفاتًا. هند باتت فُتاتًا سيطعِمُ أحلام شَعبٍ عَظيم.
الدبّابةُ لم تقتل هندًا. هند قتلت الدبّابة. بإمكان القذائف أن تمزّق الجسد ولكن كيف تدمّرُ القذائفُ الروح؟ روح هند ما زالت تطوفُ حول غزّة. تواسي آلاف الأطفال المدفونين تحت الركام. تعدُهُم بالأقحوان.
أبكوا هندًا معي. لا بأس أن يذرفَ الرجالُ الدموعَ على الأطفال. هم ما يذكّرنا بإنسانيَّتِنا في أمَّةٍ قلَّ فيها الرّجال الذين يبكون على أمَّتِهم. دُمى الأطفال مقابِلَ رجالٍ دُمى. رجالٌ يأكلون المنسفَ والمحاشي هنا والهامبرغر هناك. رِجالٌ بِعضلات مفتولَة وقلوب مقتولَة. قلوبهم أشدُّ مَوتًا من موت هِند. مات الرجال في العالم إلا قلة قليلة باعوا جماجمهم لربِّ الكَون لتحيا طفولة هند.
ماتت هند. مات معها طفل نخوَتِنا. خرَجَ منه مسخُ لا مبالاتنا. بشرٌ بلا حنان تسكنُ في أقفاصِ صدورِهِم وحوش ضارية تقتات على ضفائر هند وتحتسي دماء هند. هم مصاصو دماء البراءة ومحتسو دموع الخوف في حَدقَتَي هِند المتيبِّسَتَين.